حققت القوات الأوكرانية نصرا جديدا على أرض المعركة ضد روسيا خلال الأسابيع القليلة الماضية، فاستعادتها لمقاطعة خيرسون دون معركة مدن حامية يعد تطورا لافتا في مسار الحرب، لكن هذا التقدم الأوكراني يدفع الإدارة الأمريكية للتساؤل عما إذا كان الوقت قد حان لبدء المفاوضات بين الجانبين.
إنهاء الحرب في أوكرانيا.. لمن يكون القرار؟
وحسبما ذكر تقرير لوكالة "بلومبرج" الأمريكية، فقد حث رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي مارك ميلي المسئولين في كييف على التفكير في إمكانية التوصل إلى تسوية عادلة للنزاع قبل أن يتحول إلى ما يشبه الحرب العالمية الأولى.
وفي حين يؤكد مسئولون أمريكيون آخرون أن واشنطن لن تجبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على الجلوس إلى مائدة المفاوضات، إذ تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن يترك القرار بالكامل لتقدير الأوكرانيين، إلا أن بعض المراقبين يرون حالة من القلق بدأت تسري داخل أروقة الإدارة الأمريكية بشأن مدى تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على واشنطن سلبا أو إيجابا.
خيرسون.. انتصار أوكرانيا المفاجئ
وكانت القوات الروسية قد سيطرت على مقاطعة خيرسون لعدة أشهر، حيث تمركز 20ألف جندي روسي على الضفة اليمنى لنهر دنيبرو بالقرب من مصبه في البحر الأسود، قبل أن تداهمهم القوات الأوكرانية بهجوم استخدمت فيه أنظمة المدفعية الصاروخية "هيمارس" التي أمدتها بها الولايات المتحدة وأسلحة أخرى، مستهدفة عزل القوات الروسية عن خطوط إمداداتها، ومن ثم دحرها بهجوم منظم أربك القوات الروسية وأفقدها القدرة على الحفاظ على مواقعها، مما دفعها للانسحاب في أوائل نوفمبر الجاري تجنبا لتعرضها للتدمير.
وتعد استعادة القوات الأوكرانية لخيرسون حلقة جديدة في مسلسل النصر الذي تحرزه أوكرانيا منذ أوائل سبتمبر الماضي، بداية من تحرير المناطق المحيطة بمدينة خاركيف في الشمال الشرقي، وحتى الهجوم الذي شنته على جسر كيرتش الذي يربط الأراضي الروسية بشبه جزيرة القرم، ورغم هذا التطور تظل هناك بعض التحفظات لدى الإدارة الأمريكية بشأن مسار الحرب، بسبب عدد من التحديات التي تلوح في الأفق، حيث وضع استعادة خيرسون القوات الأوكرانية في مرمى هجوم صواريخ هيمارس الروسية التي تنطلق من شبه جزيرة القرم، في حين أن القوات التي تحررت على خلفية هذا النصر يمكن أن تستعد لشن هجوم جديد في أماكن أخرى.
وعلى الجانب الآخر قد تحتاج القوات الأوكرانية التي خاضت الكثير من المعارك خلال الأسابيع الماضية إلى بعض الراحة، رغم إمكانية تعرضها لمقاومة عنيفة من القوات الروسية مع استمرار تدفق أعداد كثيفة من الجنود الروس على مختلف جبهات القتال، وتحضيرهم لأساليب دفاع متعددة وخاصة حفر الخنادق استعدادا للشتاء، مما يهدد بإضعاف خطوط الإمدادات الأوكرانية، لكن يبقى احتمال صمود الجيش الأوكراني قائما بالنظر إلى تحركاته المباغتة التي حقق بها تقدما ملحوظا بطرد الروس من مواقعهم غير الحصينة سابقا.
أزمة الطاقة والتهديد النووي الروسي؟
وتثير هذه المعطيات تساؤلا عن مدى التصعيد المحتمل بين الجانبين، حيث كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد هدد باستخدام السلاح النووي للحفاظ على خمسة أقاليم أوكرانية ضمها بشكل غير قانوني منذ عام 2014 وخلال الحرب، لكن أوكرانيا تجاوزت خطوطه الحمراء باستعادة إقليم خيرسون ومواصلة الهجوم على مناطق أخرى شرقي البلاد.
ومع ذلك تبقى شبه جزيرة القرم نقطة ارتكاز رئيسية لدى بوتين عند حديثه عن عودة روسية قوية، حيث يقوض احتمال خسارتها هيبته السياسية بشكل غير مسبوق، ورغم ذلك لم تسكت التطورات الأخيرة الأصوات التي تتعالى داخل الإدارة الروسية بتفضيل عقد سلام جزئي على المخاطرة بوقوع كارثة.
ويبرز تساؤل مهم آخر عن المدى الزمني المتوقع لاستمرار حلفاء أوكرانيا في دعمها، ويوضح الواقع أن حلفائها الأوروبيين ما زالوا متماسكين، ومن المحتمل أن يضمن النصر الذي حققته استمرار الدعم الدولي لها خلال الشتاء، ويرى مسئولون مطلعون بما فيهم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن بوتين لم يبد أي استعداد للتسوية.
وتحاول الإدارة الأمريكية تجنب سيناريو تعرقل فيه أوكرانيا الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة، في وقت تعاني فيه أوروبا نقص إمدادات الطاقة الروسية وتعثر اقتصادي مرشح للتفاقم مع اقتراب الشتاء، بينما يترقب البيت الأبيض موقف الجمهوريين المسيطرين على مجلس النواب من المساعدات الأمريكية لأوكرانيا خلال العام القادم، وقد يكون هذا هو ما دفع الإدارة الأمريكية لحث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على التراجع عن تصريحاته بعدم التفاوض إلا مع رئيس روسي جديد يحل محل بوتين، والذي يجعل تغيير النظام الروسي هدفا لحرب غربية محتملة، لذا يعيد المسئولون الأمريكيون التأكيد مرارا وتكرارا على ضرورة أن تنفتح أوكرانيا على خيار التفاوض إذا كانت ترغب في إنهاء الصراع.
استنزاف روسيا.. لهذا تريد واشنطن استمرار الحرب
وبالحديث عن مدى تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الولايات المتحدة، يرى محللون أنه رغم ارتفاع تكلفتها على أوكرانيا فإنها تمثل مكسبا استراتيجيا كبيرا لواشنطن، حيث تستنزف الحرب قوى روسيا وقد تضعف جيشها بشكل غير مسبوق، وتتيح الفرصة لحلف الناتو للتوسع وتقوية دفاعاته في مواجهتها.
وعلى الجانب الآخر يرى عدد من المسئولين الأمريكيين أن الولايات المتحدة لم تجن أي مكاسب من الحرب في أوكرانيا، بل يتزايد عبء المساعدات الأمريكية لها يوما بعد يوم، وهي تصرف الانتباه الأمريكي عن أزمات عالمية أخرى، كما يرون أن الحرب طويلة الأمد كشفت مدى العوار في الصناعات الدفاعية الأمريكية بشكل قد يضطر المسئولين للتفكير بشأن إعادة هيكلة التسليح، ومع استمرار تدهور الوضع في مضيق تايوان كما يحذر المسئولون الأمريكيون، تكون الحاجة لإنهاء النزاع في أوكرانيا أكثر إلحاحا.
ورغم السجالات والتعقيدات التي تواجهها إمكانية الانخراط في مفاوضات جادة بين طرفي النزاع، يظل التخوف الأكبر هو نفاد الوقت المتاح أمام واشنطن للعب دور مؤثر في دفع العملية الدبلوماسية الرامية لإنهائه.