الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الموت بالتجويع.. "هولودومور" جريمة السوفييت ضد أوكرانيا منذ 90 عاما

أكلوا لحوم البشر
"أكلوا لحوم البشر وأطفالهم من الجوع" .. "هولودومور" جريمة ال

"مات الأشخاص الجيدون أولا، الذين رفضوا السرقة أو المتاجرة بشرفهم، الذين أعطوا الطعام لغيرهم .. مات أولئك الرافضون أكل الجثث، وقتل زميلهم ... مات الآباء المقاومون أكل المثيل قبل أطفالهم" .. كانت تلك كلمات طبيبة أوكرانية عام 1933، في رسالة لصديقها، وثقت فيها إحدى أبشع جرائم البشر في القرن العشرين.

3.5 مليون أوكراني كانوا ضحية حرب إبادة نفذت بحقهم عن طريق الجوع، ويرى الرجال والنساء طعامهم محرما عليهم، ويأكله غيرهم، وأبنائهم يموتون أمام أعيونهم جوعا.. تلك الجريمة هي ما أطلق عليه في التاريخ بجريمة "هولودومور".

جريمة مدبرة لقتل "النزعة الوطنية" 

"هولودومور" كلمة تعني "وباء الجوع" في اللغة الأوكرانية، وأحيانا تترجم إلى «القتل بالتجويع»، وهي المصطلح الذي يطلق على المجاعة التي حاقت بأوكرانيا السوفيتية في الموسم الزراعي 1932 – 1933، في أحد أسوأ الكوارث في التاريخ الأوكراني، وأحد أسوأ معالم فترة حكم ستالين، حيث تشير التقديرات إلى أن ما بين 2.2 و 3.5 مليون قد ماتوا في هذه المجاعة، كما أن البعض يطرح أرقاماً أعلى من ذلك بكثير.

وكانت المجاعة جريمة مدبرة من قبل السلطات السوفييتية لاستهداف النزعة الوطنية الأوكرانية، وقد أقر البرلمان والحكومة الأوكرانيان وعدد من الدول الأخرى اعتبار الأحداث التي أدت إلى المجاعة بمثابة أفعال إبادة جماعية، رغم عدم وجود إجماع دولي حول ذلك حتى الآن.

هكذا صدرت أوامر ستالين 

وعن تفاصيل ما حدث، دونت كتب التاريخ أن ستالين القيصر السوفيتي كان يهدف لتحويل الأمة الأوكرانية إلى فكرته لتكون ضمن أمته الاشتراكية، حتى لو أدَّى ذلك إلى التدمير المادي لقطاعات واسعة من سكانها، فقام بطرد الفلاحين من مزارعهم الفردية بالقوة، وصادروا حقولهم، وأُجبروا على الانضمام إلى المزارع الجماعية الكبيرة، وأُرسل العديد منهم إلى المنفى أو هجِروا من منازلهم، وقامت شرطة ستالين السرية بترحيل 50 ألف عائلة أوكرانية زراعية إلى سيبيريا.

وفي إطار سياسة الزراعة الجماعية التي اعتمدتها الحكومة السوفيتية، والتي اتُّبعت بشكل مكثف بين عامَي 1929 و1933، تم تحويل كافة المحاصيل إلى العاصمة السوفيتية، بهدف تقليل القوة الاقتصادية لـ"الأوكران" الذين قاوموا الحكم السوفيتي، وحين طلب الكرملين من الحبوب أكثر مما يستطيع المزارعون توفيره، أصدر ستالين أمر بمصادرة بعض محصول الفلاحين كعقاب لعدم الوفاء بالحصص المطلوبة، وعندما قاوموا اجتاحت كتائب من نشطاء الحزب الشيوعي القرى، وأخذت كل ما هو صالح للأكل، وصادرت كل الحبوب التي ينتجونها، وعلى رأسها القمح والشعير، لذلك لم يبقَ للفلاحين أو عائلاتهم شيء سوى الموت. 

التنكيل لمن يعترض 

أصدر ستالين قرارا باعتقال رؤساء المزارع الجماعية الذين قاوموا، وأعضاء الحزب الذين لم يَفُوا بالحصص الجديدة، وفي غضون ذلك، اعتقل ستالين بالفعل عشرات الآلاف من المعلمين والمفكرين الأوكرانيين، وحذف كُتبدًا باللغة الأوكرانية من المدارس والمكتبات، وأصدر ستالين مرسوما عام 1932 استهدف ما وصفهم بـ"المخرّبين الأوكرانيين"، وأمر المسؤولين المحليين بالتوقف عن استخدام اللغة الأوكرانية في مراسلاتهم، وقمع السياسات الثقافية الأوكرانية التي تمَّ تطويرها في عشرينيات القرن الماضي.

وعندما ذهب جامعو المحاصيل التابعين لستالين إلى الريف، استخدموا أعمدة خشبية طويلة مثبّتًا عليها نقاط معدنية لوخز الأرضيات الترابية لمنازل الفلاحين للكشف عن مخازن الحبوب المخبأة، وغالبا ما عُوقب المزارعون الذين كدّسوا محاصيلهم بالسجن أو الإعدام، وهناك روايات تسجل تلك الأحداث، على سبيل المثال، أُلقي القبض على صبيَّين يخبّئان أسماكًا وضفادع كانا قد اصطاداها، وتمَّ اصطحابهما إلى قرية سوفيتية، حيث تعرضا للضرب، ثم تمَّ جرهما إلى حقل بينما كانت أيديهما مقيدة وفماهما وأنفافهما مكممة، حتى واجها الموت خنقا.

أكل المثيل والأطفال والحيونات بديل الجوع 

مع تفاقم المجاعة، لجأ الفلاحون الأوكرانيون إلى الأساليب اليائسة في محاولة البقاء على قيد الحياة، حيث قتلوا وأكلوا حيوانات أليفة وأكلوا الزهور والأوراق ولحاء الأشجار والجذور، وحاول الكثيرون الفرار بحثًا عن أماكن بها المزيد من الطعام في المدن وخارج حدود جمهورية أوكرانيا السوفيتية، وتناثرت جثث أولئك الذين غادروا قراهم بحثا عن الطعام في المدن والطرق، وبدأ حدوث انتشار واسع لأكل لحوم البشر "أكل المثيل".

وحينما توسل المواطنون والمسؤولون المحليون لتخفيف الإجراءات التي فرضتها الدولة الستالينية، فكان ردّ السلطات هو اتخاذ تدابير إضافية فاقمت محنتهم، مثل إغلاق حدود أوكرانيا، حتى لا يتمكّن الفلاحون من السفر إلى الخارج والحصول على الطعام، فيما أحبطت الشرطة السرية ونظام جوازات السفر الداخلية محاولات هروب البعض، حيث يقول الخبراء إن هذا كان بمثابة حكم بالإعدام.

"كان البقاء على قيد الحياة صراعًا أخلاقيًا وجسديًا أيضًا" ...  كان ذلك جزءا من رسالة كتبتها طبيبة إلى صديق في يونيو عام 1933، وقالت "لم تصبح بعد من آكلي المَثيل، ولكن «لم أكن واثقة أني لن أكون واحدة منهم حين وصول الرسالة». مات الأشخاص الجيدون أولًا .. مات أولئك الذين رفضوا السرقة أو المتاجرة بشرفهم ... مات أولئك الذين أعطوا الطعام لغيرهم ... مات أولئك الرافضون أكل الجثث ... مات أولئك الرافضون قتل زميلهم ... مات الآباء المقاومون أكل المثيل قبل أطفالهم".

إختفاء الأسر الأوكرانية وتوطين الروس وإعدام آكل المثيل

ووفقا لما دونته لجان التحقيق الدولية، فإنه بحلول صيف عام 1933، لم يتبق سوى ثلث الأسر في بعض المزارع الجماعية، وازدحمت السجون ومعسكرات العمل بأقصى طاقتها، وأصبحت البيوت مهجورة ورائحة الموت تفوح من مدن بأكلمها مع انتشار الجثث بها.

ومع عدم بقاء أي شخص تقريبا لزراعة المحاصيل، أعادَ نظام ستالين توطين الفلاحين الروس من أجزاء أخرى من الاتحاد السوفيتي في أوكرانيا لمواجهة نقص العمالة، وتنفيذ باق مخططة في نزع القومية الأوكرانية.

ولمواجهة آكلى البشر، طبع النظام السوفييتي ملصقات تقول إن «أكلكم أطفالَكم هو فعل بربري»، وقامت بإجراء محاكمات في هذا الشأن، أُدين فيه أكثر من 2500 شخص بتهمة أكل المثيل خلال الهولودومور، وتم إعدامهم.

جدل الإبادة الجماعية

ولا يزال العدد الدقيق للأشخاص الذين ماتوا في مجاعة عامَي 1932 و1933 غير معروف، في حين يقدِّر المؤرخون أن ما بين 3 و12 مليون شخص لقوا حتفهم، معظمهم من أصل أوكراني، لأنهم حرموا عمدا من الطعام، ولكن وفقا لأحدث التقديرات، أودت المجاعة الأوكرانية بحياة 3.9 ملايين شخص، أي حوالي 13% من سكان أوكرانيا.

وفي وقت متأخر اعترف مسؤولو الكرملين أن الـ"هولودومور" كانت مأساة، لكنها أصرت أنها لم تكن مقصودة، وذلك بعد عقود طويلة، أنكر مؤرِّخو الاتحاد السوفيتي وجود المجاعة الأوكرانية، وتجنّبوا الحديث عنها داخل البلاد، وتمَّ قمع كل المناقشات بنشاط، وتعديل الإحصاءات لإخفائها.

فيما أقر البرلمان  والحكومة الأوكرانيان وعدد من الدول الأخرى اعتبار الأحداث التي أدت إلى المجاعة بمثابة أفعال إبادة جماعية، رغم عدم وجود إجماع دولي حول ذلك حتى الآن.

وفي أبريل 2008، أصدر النوّاب في البرلمان الروسي قرارًا ينصّ على أنه "لا يوجد دليل تاريخي على أن المجاعة تمَّ تنظيمها على أُسُس عرقية"، ومع ذلك اعترفت 16 دولة على الأقل بالمجاعة الكبرى، ومؤخرًا أكّد مجلس الشيوخ الأمريكي، في قرار صدر عام 2018، النتائج التي توصّلت إليها لجنة عام 1988 بأن ستالين ارتكب "إبادة جماعية".


-