نظمت كلية القانون بالجامعة البريطانية فى مصر، تحت رعاية الدكتور محمد لطفي رئيس الجامعة، وإشراف الدكتور حسن عبد الحميد، عميد الكلية، ورشة عمل بعنوان "المنطق القضائي : كيف يفكر القضاة"، بحضور عدد كبير من كبار رجال القضاء من مختلف المحاكم المصرية، بالإضافة إلى نخبة من المحامين والأكاديميين القانونيين.
تأتي ورشة العمل في إطار حرص كلية القانون بالجامعة البريطانية على فتح النقاش في ملفات استراتيجية متعددة تخص بنية العدالة وتطوير أنظمة التعليم القانوني، وإعادة الاعتبار للقانون بصفته أداة مركزية للهندسة الاجتماعية، إلحاقا برؤية الكلية المستمرة منذ تأسيسها والتي تسعى لتنمية المهارات ونقل الخبرات القانونية والقضائية.
وجاءت الورشة لطرح نقاش مهني وعلمي معمق للإجابة على سؤال (كيف يفكر القضاة) في نطاقات قانونية متعددة تتضمن الجنائي، والمدني التجاري، والإداري، مستحضرًا الأبعاد الاجتماعية والثقافية والتعليمية التي قد يكون لها تفاعل في منهج تفكير القاضي جنبا إلى جنب مع النصوص القانونية وأحكام المحاكم.
وهدفت الورشة من خلال محاورها المتعددة إلى الوصول إلى إجابات مستجدة عن مدى سلطة القاضي التقديرية في العمل بالنصوص القانونية المُعتمدة، أو تجاوزها إذا رأى عدم مرونتها أو صلاحيتها كمعايير لتحقيق العدالة، كذلك، إلى أى مدى يعتد القاضي في حكمه بالسوابق القضائية التي تشبه الواقعة التي يحكم فيها؟ وهل يمثل اختلاف العرف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مؤثرات معتبرة ذات أثر في تفكير القاضي ونتاجه "الأحكام التي يقضي بها"؟ وما إلى ذلك من تساؤلات تتصل بعلاقة الدين وعلاقة بيئة القاضي والبيئة التي يعمل بها كعوامل أصيلة في تكوين وجدان وفكر القاضي.
بدأت الورشة بكلمة افتتاحية ألقاها الأستاذ الدكتور حسن عبد الحميد عميد الكلية، وتحدث فيها عن فلسفة القانون وعمل القضاء، وأكد فيها على محورية دور القاضي في هندسة العدالة داخل المجتمع، مستحضرا تجارب من نماذج حضارية متنوعة، وفي القلب منها مصر الفرعونية.
كما أكد البروفيسور عبد الحميد أن سؤال الورشة الذي يسعى للتنقيب عن المنطق القضائي وكيفية تفكير القضاة، فإنه يستتبع سؤالا مستقبليًا بالغ الأهمية، وهو "كيف ينبغي للقاضي أن يحكم ويفكر"، فالسؤال الوصفي والتحليلي الذي نقوم به يهدف لوضع رؤية للمستقبل تتضمن ضمانات أمثل للعدالة تراكم على الإنجازات التي حققتها الأنظمة القانونية المختلفة، بعد ذلك مباشرة، ألقت المستشارة الجليلة أمل عمار -مساعد وزير العدل والممثلة الرسمية لوزير العدل بالورشة- مداخلة ذكرت فيها رؤية وزارة العدل لتطوير المنظومة القضائية، وما تواجهه من تحديات، والإنجازات التي تمت، مؤكدةً على ضرورة عقد المزيد من ورش العمل التي تسعى لبحث مثل هذه الأسئلة بمداخل علمية متعددة ومركبة تجمع النظرية والتطبيق لتحقيق أقصى استفادة ممكنة.
وتميز افتتاح الورشة بمداخلة مميزة للمستشار عدلي حسين، والتي قدمها كأنها تحليل تاريخي ومستقبلي جمع فيه بين الدروس النظرية وتجاربه الشخصية التي امتدت في القضاء المصري بداية من عمله لسنوات طويلة في النيابة العامة وقيامه بالتحقيق في قضايا سياسية بالغة الحساسية آنذاك، وعمله كرئيس لمحكمة استنئاف القاهرة، ومحكمة جنايات أمن الدولة العليا، ورئاسته للمكتب الفني لوزير العدل بين عام 1981-1984.
كما تناولت الورشة، العديد من المحاور الهامة، ناقشها البروفيسور بيران ميلكفيك، الأستاذ بكلية القانون جامعة لافال بكندا، متحدثًا عن كيف يفكر القضاة عمليًا من وجهة النظر الفلسفية والمنطقية مستحضراً التجربة الكندية وما فيها من دورس مستفادة. كذلك تحدث المستشار الدكتور على فرجاني، نائب رئيس محكمة النقض ورئيس الدائرة الجنائية بالمحكمة، عن كيفية تفكير قضاة محكمة النقض في مصر؟ مستصحباً تجربته التي قاربت خمسة عقود في القضاء المصري. أعقب ذلك، حديث المستشار الدكتور محمد سامي العواني، القاضي بمحكمة النقض، عن "المنطق القضائي في تقدير العقوبات الجنائية في ضوء القانون وأحكام المحاكم في مصر"، تلاه تعقيب من الأستاذ ماهر ميلاد المحامي، والشريك المدير لمكتب أندرسون بالقاهرة.
وناقش المستشار محمد علي سلامة، نائب رئيس محكمة النقض، سؤالا عرضته عليه الورشة وهو "كيف يفكر القاضي المدني في المنازعات المدنية والتجارية"، مثيرا العديد من التساؤلات التي أدت إلى فتح النقاش خلال الورشة في عدة مساحات تتعلق بسلطة القاضي في محاكمة القانون. واستكمل هذا المحور عن تفكير القاضي في المنازعات المدنية والتجارية، بتعليق من مكتب الشرقاوي وسرحان للمحاماة، ممثلا في الأستاذ طاهر سبالا، المحامي والقاضي السابق، والذي عرض بدوره كيف يرى المحامي الوجه الآخر لمنهج تفكير القاضي وأثره على المنازعات التي يختبرها يوميا في عمله. من جهته، تحدث المستشار ياسر الكرديني نائب رئيس مجلس الدولة المصري، عن "المنطق القضائي في عمل القاضي الإداري وكيف يفكر القاضي الإداري"، وتلي ذلك تعقيب من السيد محمد بكري، المحامي والكاتب .
وتطرق الأستاذ الدكتور محمد سراج، الأستاذ بالجامعة الأمريكية في مصر، للحديث عن كيف يفكر القاضي المسلم في تاريخ الممارسة القضائية: نحو إعادة الاعتبار، مستحضرا نماذج من المقاربة بين التجرية القضائية الفقهية والقانون الإنجليزي مؤكداً على ضرورة استحضار وجمع أحكام المحاكم القضائية في عصور سابقة وتحليلها لإدراك الترابط والاختلافات بين هذه الأحكام بعضها وبعض، وبينها وبين المجتمعات التي نشأت فيها. وأضاف كذلك البروفيسور سراج ضرورة إعادة النظر في مناهج التفكير الفقهي لإعادة الاعتبار مجددا لعقلية السوابق القضائية. واختتمت الورشة بمداخلة عبر زووم من البروفيسور ميرال شيرتوف، الأستاذ بكلية القانون بجامعة جورج تاون، عن المنطق القضائي في عمل القاضي الأنجلو أمريكي: العقيدة القضائية بين الليبراليين والمحافظين "، والتي ركزت فيها على عقيدة السوابق القضائية، ومنهج القضاة في كتابة أحكامهم، وطريقة تكوين النظام القضائي الأمريكي بين القضاء الفيدرالي وقضاء الولايات.
وعلق الأستاذ الدكتور حسن عبد الحميد، عميد كلية القانون بالجامعة البريطانية، أن اهتمام الكلية بمثل هذه الورش، يأتي في ضوء حرص الكلية على تعميق الشراكات الحقيقية بين المؤسسات الأكاديمية والبحثية القانونية، والمؤسسات القضائية، بهدف بحث جاد وحقيقي لإشكالات الواقع ، ومن ثم التقدم بحلول عملية وواقعية.
وأكد الدكتور "عبد الحميد"، أن مصر تتمتع بتاريخ عريض ومشرف للقضاء المصري، يستحق الدراسة والاستفادة والبناء على ما فيه من إنجازات، ولذا تنوي الكلية الاستمرار في عقد سلسلة من ورش العمل التي تهدف إلى دراسة الثقافة القضائية من خلال بعض الموضوعات، ومن خلال بعض الرموز القضائية التي لم تنل حظها من الدراسة والبحث تحت عنوان "الدراسات القضائية"، وذلك بهدف إعادة الاعتبار لأهمية جمع العقل القانوني الأكاديمي مرة أخرى جنبا إلى جنب مع العقل القضائي الممارس لتعزيز الاستفادة القصوى الممكنة.