تشير إحصائيات إلى أن ملوثات الهواء تقتل ما يقرب من 7 ملايين إنسان كل عام، وتتكون معظم هذه الملوثات من الجزيئات والشوائب متناهية الصغر العالقة في الهواء، والتي يسبب استنشاقها العديد من أمراض القلب والرئتين بما فيها أنواع من السرطان.
الغبار الجوي.. "شمسية" من الملوثات
وتكوّن هذه الشوائب العالقة في طبقات الجو سحبا كثيفة، سواء كانت بلورات ملح من المحيط الجنوبي أو كبريتات متصاعدة من مداخن المصانع، وتشكل ما يعرف بالغبار الجوي، ويمكن أن تتكاثف الرطوبة في الغلاف الجوي في شكل قطرات رذاذ محملة بالغبار الناتج عن احتراق الوقود الأحفوري وتصاعد أبخرته إلى الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى تكثيف الرذاذ بشكل أكبر، والذي يعكس أشعة الشمس إلى الفضاء ويمنعها من الوصول إلى الأرض، وقد تدوم هذه الشوائب في الجو لفترات طويلة من الوقت.
وذكر تقرير نشر على موقع "ساينس أليرت" العلمي أن كل تلك الظواهر تزيد من كمية الغيوم التي تعكس أشعة الشمس مرة أخرى إلى الفضاء بدلا من أن تمتصه الأرض، وقد خلص الفريق الحكومي الدولي المعني بأبحاث تغير المناخ إلى أن هذه العملية تبرد المناخ وتخفض تأثير الاحتباس الحراري.
ورغم أن هذه الحقائق قد تبدو إيجابية للوهلة الأولى، إلا أنه لا داعي للإفراط في التفاؤل بشأنها، فالغبار الجوي الذي يساهم في تبريد الجو لا يبقى عالقا فيه لأكثر من شهر واحد، بينما تظل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن عوادم السيارات ومحطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم في الجو لعدة قرون، مما يعني أن تأثير الغبار الجوي لا يواكب تأثير الغازات المسببة للاحتباس الحراري على رفع حرارة الأرض.
هل يقلل التلوث أثر الاحتباس الحراري؟
ويوضح بحث جديد في هذا الصدد أن تلوث الهواء سيحد كثيرا من قدرة الغيوم التي تعكس أشعة الشمس وتساهم في تبريد المناخ، وبالتالي مع وجود أمل جديد في قدرة الملوثات على خفض تأثير الاحتباس الحراري، فإنه يتعين على قادة العالم الذين اجتمعوا مؤخرا في قمة الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ في شرم الشيخ COP27 أن يبذلوا قصارى جهدهم لخفض استهلاك الوقود الأحفوري.
وقد استرشد المتخصصون بالبيانات المتوفرة عن انبعاثات السفن لقياس تأثير الغبار الجوي الناتج عن النشاط البشري على المناخ، ووجدوا أنها تلوث الهواء النقي أكثر من تلويثها للأرض، مما يسهل دراسة أثر الغبار الجوي بشكل منفصل عن تداخل الملوثات الأخرى معه.
ورصدت الأقمار الصناعية الغبار الجوي المنبعث من السفن من خلال ما يسمى بالخطوط البيضاء للسفن، واعتمدت الدراسة على بيانات عالمية تظهر مسارات سفن يظهر فيها أكثر من مليونين من تلك الخطوط على مدار ستة أعوام، وترجح الدراسة أن صور الأقمار الصناعية تظهر 5% فقط من حجم التلوث.
وبالاستعانة ببيانات التنبؤ بالطقس، أمكن للباحثين عمل نموذج محاكاة للانبعاثات التي تحملها الرياح والسحب، وبالتالي استطاعوا دراسة أثر الغبار الجوي بمعزل عن الخطوط البيضاء للسفن، عن طريق قياس عدد قطرات الرذاذ وكمية المياة في السحب الملوثة مقارنة بغير الملوثة، وخلصت الدراسة إلى أن انبعاثات السفن (حتى مع عدم رصد الأقمار الصناعية لها) ترفع من قدرة السحب القريبة على عكس أشعة الشمس، لأن هذه الانبعاثات غير المرئية تزيد من كمية الماء في السحب، على عكس التقديرات السابقة التي رجحت مساهمتها في تجفيف السحب، وهو ما كان يدفع العلماء لتقليل من شأن أثر الملوثات على تبريد الغلاف الجوي.
التلوث ليس حلا لتغير المناخ
وقد تنطبق هذه النتائج الجديدة على الغبار الجوي، حيث يعتقد أن تلوث الهواء قد يكثف الغيوم على عكس الاعتقاد الذي كان سائدا في الماضي، وبالتالي يزيد من فرص تبريد الجو، وإن كانت نتائج هذا الكشف الجديد تحتاج لمزيد من البحث والدراسة قبل أن يعتمدها العلماء بشكل نهائي، حيث لفت بحث أجري مؤخرا إلى إمكانية انخفاض تلوث الهواء مستقبلا.
وقد استخدم الباحثون خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحديد الخطوط البيضاء للسفن في صور الأقمار الصناعية قبل وبعد إصدار المنظمة البحرية الدولية لضوابط تقليل التلوث الناتج عن حركة الملاحة العالمية، وأظهرت النتائج أن خفض معدل هذا النوع من التلوث نتج عنه انخفاض ملحوظ في عدد السحب العاكسة لأشعة الشمس بنسبة 25%، وبذلك يكون من المفارقة أن يؤدي خفض التلوث إلى رفع درجة حرارة الأرض بشكل غير مقصود.
وعلى الرغم من ذلك لا تتعارض مكافحة تلوث الهواء مع حماية المناخ من التغير الحاد، فالهدفان يمكن تحقيقهما بالقضاء على سببهما المشترك وهو الوقود الأحفوري، من خلال تقليل عدد السيارات التي تعمل به وتزويد أنابيب عوادمها بمرشحات لتصفية أكبر قدر من الملوثات المنبعثة منها، كما يمكن تنفيذ خطوات مشابهة في كل من القطاع الصناعي وقطاع توليد الكهرباء وأنظمة التدفئة، وبشكل عام يرى العلماء أن خفض تلوث الهواء الذي يحد من تغير المناخ يكمن في التوقف عن استعمال الوقود الأحفوري الذي يضر بصحة الإنسان ومستقبل الكوكب على السواء.