جاء إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب نيته الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة عام 2024، كمفاجأة صادمة للبعض ممن استبعدوا هذا الاحتمال سابقا، اعتقادا منهم أن الزمن تجاوز ترامب بصورة تصعب عليه التعاطي مع مستجداته بشكل إيجابي، بالنظر إلى شخصية لا تتحلى بما يكفي من المرونة للتكيف مع المتغيرات.
ترامب الذي عفا عليه الزمن
وذكر تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أن اللحظة الراهنة لا تناسب عودة ترامب إلى معترك السياسة مرة أخرى، فقد كانت اللحظة المناسبة له هي صعوده إلى سدة حكم الولايات المتحدة عام 2016، لكن الأوضاع تبدلت على مدار 8 سنوات على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ولم يعد ترامب الآن ذلك الضيف الجديد على عالم السياسة، كما لم يعد ذلك الشخص الضعيف المنبوذ الذي أراد في الماضي أن يوحيه للجمهور فيكسب تعاطفه، فهذا الخطاب أصبح قديما الآن، لكن في الوقت نفسه يمكن وصفه بالرئيس الذي تعرض لخطر العزل من منصبه مرتين، وخسر السباق الرئاسي المؤهل لفترة حكم ثانية منذ عامين، متسببا في خسارة الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه لآخر ثلاثة انتخابات، بالإضافة إلى أنه يخوض عدة معارك قانونية، ومن البديهي أن تؤدي هذه المعطيات إلى أفول نجمه وانحسار الأضواء عنه.
ولطالما آمن ترامب أن عار الهزيمة يلاحق المرشح المهزوم طويلا، لذا يبذل قصارى جهده لإقناع العالم أنه لم يخسر بل تعرض لمؤامرة، لكن الحقيقة أنه لم يخسر فقط بل أصاب ما يسمى مجازا بـ "الترامبية السياسية" في مقتل.
الحزب الجمهوري.. قلعة ترامب غير الآمنة
ويتميز الحزب الجمهوري بسرعة التقلب في المواقف والتعصب الشديد للأشخاص، فهو عادة ما يسخر كل طاقاته وإمكانياته لدعم شخص معين إلى نهاية المطاف، ثم يعيد الكرة مع الشخص التالي بنفس القوة والحماس، وهو يمارس هذه السياسة الآن مع ترامب، لكن مهما طال الوقت سينتهي هذا الدعم المطلق له يوما ما، فالظروف دائمة التغير والأمر الواقع يفرض نفسه في النهاية.
وكمثال يشرح ما يحدث الآن، فقد قدم الجمهوري نيوت جنجريتش رئيس مجلس النواب الأسبق عام 1994، لائحة مبادئ حاكمة لسياسات الولايات المتحدة، واستطاع الجمهوريون تنفيذ الكثير منها من خلال العملية التشريعية، لكن مسارهم انحرف عندما ركزوا على الهجوم الشخصي على الرئيس الأسبق بيل كلينتون، أكثر من تركيزهم على إنجاح الحزب، وكانت النتيجة هي أنه مني بهزيمة كبيرة في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام 1998، وكان جنجريتش قد أدين بانتهاكات أخلاقية عام 1997، أدت لاستقالته من رئاسة مجلس النواب، ثم استقالته من المجلس كليا بعد ذلك بعدة أشهر.
وذكرت مؤسسة جالوب الأمريكية للاستشارات أن سمعة جنجريتش لدى الأمريكيين كانت جيدة في نوفمبر عام 1994، قبل أن تنخفض شعبيته لأدنى مستوياتها مع الأزمة التي أدت إلى استقالته من مجلس النواب، وعندما ترشح لانتخابات الرئاسة عام 2012 وصفته صحيفة واشنطن بوست بأنه أكثر السياسيين المكروهين في البلاد.
وأشارت المؤسسة إلى أن الجمهوريين دعموا 52% من مرشحي حزب الشاي في عام 2010، وبعد خمس سنوات انخفض هذا الدعم إلى النصف، واليوم لم يعد لحزب الشاي من ذكر في استطلاعات الرأي.
وفي عام 2008 فاجأ جون ماكين عضو مجلس الشيوخ عن ولاية آريزونا والمرشح لانتخابات الرئاسة في ذلك الوقت، الجميع باختيار سارة بالين التي كانت توصف بأنها شخصية مثيرة للجدل، كنائب محتمل له في حالة فوزه بالسباق الرئاسي، حيث كانت تحظى بتأييد الجمهوريين الذين رأوا فيها منافسا جمهوريا محتملا لانتخابات 2012 الرئاسية، لكنها خسرت المنافسة على مقعد مجلس النواب عن ولاية ألاسكا عام 2010 لصالح المرشح الديمقراطي، رغم أن الولاية معروفة تاريخيا بتأييدها للجمهوريين وقد فاز ترامب بأغلبية أصواتها في انتخابات 2016 و2020.
هل يخذل الجمهوريون ترامب؟
وفي فترات ازدهار شعبية الحزب الجمهوري، يصعب على المراقبين توقع أن تلحق به تلك الهزائم المتعاقبة، لكنها حدثت بالفعل ومن الواضح أنها ستتكرر مع ترامب، وقد استمر المحافظون لعقود في إقناع أنفسهم أن بنجاح أجندتهم التي تتصدرها قضايا مثل القيود الاقتصادية وأمن الحدود، لكن هذه القضايا في حقيقتها تقوض قيم التنوع والتنوير، فهم ينظرون إلى التغيير والنمو والتطور كأعداء لهم.
ورغم أن التغيير يمكن أن يحدث بشكل فوضوي، ويمكن أن تشوبه بعض الأخطاء التي سيسارع المحافظون لاستغلالها لإيقاف عجلة التغيير، لكنه أمر حتمي لا مفر منه ومن المستحيل إيقافه، ورغم توافق رؤية ترامب مع رؤيتهم، إلا أن هذا لن يستمر وستتكرر مأساة الهزيمة، فالأمريكيون بحاجة إلى وجوه جديدة وأساليب إدارة جديدة.
ولا يمكن الادعاء بأن ترامب قد فقد سيطرته على الحزب كليا، لكن المؤكد أن تأييد الحزب له يضعف، وبالنظر إلى ما كان يحدث سابقا، يمكن القول إنه عادة ما يخبو نجم الشخصيات المؤثرة من المحافظين سريعا.
ويبدو أن ترامب لا يريد الترشح لأنه يمتلك رؤية ثاقبة لمستقبل البلاد، ولا لأن لديه أجندة سياسية مميزة، بل لأنه لا يملك خيارات أخرى إذ يسعى لحماية نفسه من الملاحقة القانونية كما يسعى للانتقام لما اعتبره مؤامرة حيكت ضده، بالإضافة إلى رغبته في استغلال صلاحيات منصبه الرسمي لتعظيم مكاسبه كرجل أعمال.