هل قدوم رأس الإمام الحسين إلى مصر .. حقيقة أم أسطورة؟، سؤال يشغل ذهن الكثيرين خاصة في المناسبات الدينية التي تتعلق بذكرى مولد الإمام الحسين رضي الله عنه، والذي يحتفي به المصريون في مناسبتين كل عام.
وفي ذكرى قدوم رأس الإمام الحسين إلى مصر، هل كان الأمر حقيقة أم مجرد أسطورة كما يزعم بعض المشككين في رواية مقدمها إلى مصر وأنها في مستقرها بالمملكة العربية السعودية أو بالعراق على الأرجح، وفي السطور التالية نرصد أهم ما جاء في حقيقة قدوم رأس الإمام الحسين إلى مصر.
ذكرى قدوم رأس الإمام الحسين إلى مصر
ينقل الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء، إجماع المؤرخون، وكُتَّاب السيرة -سوى المتمسلفة- على أنَّ جسد الحسين رضى الله عنه دفن مكان مقتله في كربلاء، أمَّا الرأس الشريف فقد طافوا به حتَّى استقر بـ (عسقلان) الميناء الفلسطيني، على البحر الأبيض، قريبًا من مواني مصر وبيت المقدس.
وقد أيَّد وجود الرأس الشريف بــ (عسقلان)، ونقله منها إلى مصر جمهور كبير من المؤرخين والرواد، منهم: ابن مُيَسَّرٍ، والْقَلْقَشَنْدِي، وعليّ ابن أبي بكر الشهير بالسايح الهروي، وابن إياس، وسبط ابن الجوزي، وممن ذهب إلى دفن الرأس الشريف بمشهد القاهرة المؤرِّخ العظيم (عثمان مدوخ)؛ إذ قال: إن الرأس الشريف له ثلاثة مشاهد تزار: مشهد بدمشق دفن به الرأس أولًا( )، ثمَّ مشهد بعسقلان بلد على البحر الأبيض، نقل إليه الرأس من دمشق، ثمَّ نقل إلى المشهد القاهري لمصر بين خان الخليلي والجامع الأزهر، ويقول المَقْرِيزِيُّ: إنَّ رأس الحسين رضى الله عنه نقلت من عسقلان إلى القاهرة في 8 جمادى الآخرة عام 548هـ، وبقيت عامًا مدفونة في قصر الزمرد حتى أنشئت له خصيصًا قبة هي المشهد الحالي، وكان ذلك عام 549هـ.
ويقول الشيخ الحسيني هاشم، وكيل الأزهر وأمين عام مجمع البحوث -رحمه الله- تعليقًا على ما دَسَّهُ النَّسَّاخون على كتاب الإمام السيوطي «حقيقة السنة والبدعة» ما ملخصه:
وقد أَكَّدَ استقرار الرأس بمصر أكبر عدد من المؤرخين، منهم: ابن إياس في كتابه، والْقَلْقَشَنْدِي في «صبح الأعشى»، والمقريزي الذي عقد فصلًا في خططه المسمى «المواعظ والاعتبار» ص427، وص428، وص430 يؤكد رواية (ابن مُيَسَّرٍ) أن الأفضل بن أمير الجيوش بدر الجمالي، هو الذي حمل الرأس الشريف على صدره من عسقلان، وسعى به ماشيًا حيث وصل مصر يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة 548 هجرية، وحلت الرأس في مثواها الحالي من القصر يوم الثلاثاء 10 من جمادى الآخرة سنة 548 هجرية عند قُبَّةِ باب الديلم، حيث الضريح المعروف الآن بمسجده المبارك، وكذا السَّخَاوِي -رحمه الله- قد أثبت رواية نقل رأس الحسين إلى مصر.
كما تقول عطيات الشطوي المفتِّشة الأثرية الثقة، والمشرِفة المقيمة على تجديد القبة الشريفة في عصرنا: تؤكد وثائق هيئة الآثار أنَّ رأس الحسين رضى الله عنه نُقِلَ من عسقلان إلى القاهرة -كما يقول المقريزي- في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وأربعين وخمسمئة، الموافق (31 أغسطس سنة 1153م)، وكان الذي وصل بالرأس من عسقلان الأمير سيف المملكة تميم واليها، وحضر في القصر يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة المذكور (الموافق 2 سبتمبر 1153م).
ويضيف المقريزي: فقدم بـه (الرأس) الأستاذ مكنون في عشارى من عشاريات الخدم، وأنزل به إلى الكافوري (حديقة)، ثم حمل في السرداب إلى قصر الزمرد، ثم دفن في قبة الديلم بباب دهليز الخدمة (المقر الحالي).
وفي العصر الأيوبي أنشأ أبو القاسم بن يحيى بن ناصر السكري المعروف بالزرزور، منارة على باب المشهد سنة 634هـ (1236م)، وهي منارة مليئة بالزخارف الجصية والنقوش البديعة، وهي تعلو الباب الأخضر، وقد تَهَدَّمَ معظمها، ولم يبقَ منها إلا القاعدة المربعة، وعليها لوحتان تأسيسيتان (وقد جددت وهي موجودة الآن).
وقد احترق هذا المشهد في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 640هـ، وقد قام بترميمه بعد هذا الحريق القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، ووسَّعَهُ وألحق به ساقية وميضأة، ووقف عليه أراضي خارج الحسينية قرب الخندق، (ويقول بعض بَحَّاثَة المؤرخين: إن الذي أحرق المشهد هم اليهود بمصر).
كما استمرت عمليات التوسع والإضافة حتَّى جاء الأمير (كَتْخُدَا)، فقام بإصلاحات كثيرة؛ ففي سنة 1175هـ أعاد بناء المسجد، وعمل به صهريجًا وحنفية بفسحة، وأضاف إليه إيوانين، كما رتَّب للقائمين عليه مرتبات كثيرة ظلَّ معمولًا بها حتى سنة 1206هـ.
ولمَّا قدم إلى مصر السلطان عبد العزيز سنة 1279هـ، وزار المقام الحسيني الشريف، أمر الخديوي إسماعيلَ بعمارته وتشييده على أَتَمِّ شكل وأحسن نظام، وقد استغرقت هذه العملية عشر سنوات؛ إذ تمت سنة 1290هـ، أمَّا المنارة التي في جنوب غربيِّ المسجد فقد تمت سنة 1295هـ، وهي غير المنارة الأيوبية التي في جنوب شرقي المسجد.
أمَّا في عهد ثورة 23 يوليو سنة 1952م فقد عنيت عناية خاصة بتجديد مسجد الحسين، وزيادة مساحته وفرشه وإضاءته، حتى يتسع لزائريه والمصلين به، وقد بدأت هَذِهِ التجديدات سنة 1959م، وتمت سنة 1963م، وبلغت جملة تكاليفها 83 ألف جنيه.
ومن الدلائل التي ساقها عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ما يلي:
1- لقد أراد الله أن يقطع حُجة القائلين بعدم وجود الرأس بالقاهرة، وأن يَسِمَهُمْ على الخُرْطُومِ؛ فقد عثر الباحثون بالمتحف البريطاني بلندن من سنوات (أشرنا إليها بمجلة المسلم في حينها) على نسخة خطية محفوظة من «تاريخ آمد» لابن الأورق (المتوفى عام 572هـ)، وهي مكتوبة عام 560هـ؛ أي قبل وفاة المؤرخ باثنتي عشرة سنة، ومسجلة بالمتحف المذكور تحت رقم (5803 شرقيات)، وقد أثبت صاحب هذا التاريخ بالطريق اليقيني أنَّ رأس الحسين قد نقل من عسقلان إلى مصر (عام 549هـ)؛ أي في عهد المؤرخ وتحت سمعه وبصره وبوجوده ومشاركته، ضمن جمهور مصر العظيم في استقبال الرأس الشريف.
ولا نظن أن مخلوقًا يتمتع بذرة من الإنصاف يماري في وجود الرأس الشريف بمصر بعد ذلك، أو يماري في أن ظهور هذه النسخة الخطية من هذا الكتاب في هذا الوقت، إنَّمَا هو كرامة لأهل البيت جميعًا، وللحسين رضى الله عنه بخاصة، ولو علم (ابن تيمية) -وهو خصم الحسين الأخصم- بذلك؛ لتاب إلى الله من قوله: «ولعلها رأس يهودي بمصر»، سامحه الله، وبَصَّرَ السائرين على منهجه، بما هو أهدى وأندى وأجدى.
2- الدولة الفاطمية بمصر كانت محل تناظُر وتنافُس بالغ، ومخاصمة مع الدولة العباسية بالعراق، وكانت كل دولة منها تتسقط للأخرى مواقع الزَّلَلِ، ومواطن الأخطاء للتشهير بها، وإضعاف مركزها، وبخاصة في مثل هذه الموضوعات التي يتأثر بها الجماهير، مهما كان الخلاف بينهم في أبناء علي وأبناء العباس، فكان صمت العباسيين وغيرهم -دولة وشعبًا- على هذا الحديث الخطير أكبر دليل على صحة وجود الرأس بعسقلان، ثمَّ على صحة نقلها من عسقلان إلى مصر.
وقد غاب هذا الدليل عن المتحدثين -على كثرتهم- في هذا الجانب، رغم أنه دليل قاطع حاسم.
كما ساق علي جمعة بعض الشهود العدول مع وجود الرأس الشريف بالقاهرة: منهم ما نقل في أواخر «بحر الأنساب» ما ملخصه -بتصرف- أن العلَّامة الشبراوي (شيخ الأزهر لوقته) ألَّف كتابًا أسماه «الإتحاف» أثبت فيه وجود الرأس بمقره المعروف بالقاهرة يقينًا، وذكر أن مِمَّنْ أثبتوا ذلك الأعلام:
الإمام المحدث الحافظ زَكِيُّ الدِّينِ الْمُنْذِرِيُّ، الإمام المحدث الحافظ ابن دِحْيَةَ، الإمام المحدث الحافظ نَجْمُ الدِّينِ الغيطي، الإمام مَجْدُ الدِّينِ بْنِ عُثْمَانَ، الإمام مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ.
وشدد على أن جماهير الصوفية على اختلاف المراتب والأسماء والمشارب والأوطان، مِمَّا يرفع الحكم إلى درجة التواتر؛ لعدم التسليم بتواطؤ كل هؤلاء على الكذب، أو على الجهل والغفلة والتعصب، بالإضافة إلى كبار المؤرخين الذين أسلفنا ذكرهم.
كما تم الإجماع على أنَّ الرأس الطاهر وصل إلى القاهرة من عسقلان في (يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة خمسمئة وتسع وأربعين) فحمله الأمير (سيف المملكة مكين)، والقاضي (ابن مسكين) إلى السرداب الخليفي العظيم بقصر الزمرد، فحُفِظَ مؤقتًا بالسرداب من عاشر جمادى الآخرة في خلافة (الفائز الفاطمي) على يد وزيره (الصالح طلائع بن رزيك)، حتى بُنِيَ القبر الحالي والقبة عند باب الديلم، الواقع وقتئذ في الجنوب الشرقي من القصر الكبير، والمعروف الآن بالباب الأخضر، فحمل الرأس الشريف من السرداب العظيم إلى هذا القبر، ودفن به في الثلاثاء الأخير من ربيع الآخر على المشهور من العام التالي، وهو موعد الذكرى السنوية الكبرى بمصر للإمام الحسين رضى الله عنه.
جاء في («المقريزي»، 2/171): «وبنى طلائع مسجدًا لها -يعني الرأس- خارج باب زويلة من جهة الدرب الأحمر، وهو المعروف بجامع الصالح طلائع، فغسلها في المسجد المذكور على ألواح من خشب»، يقال: إنَّها لا زالت موجودة بهذا المسجد، فممَّا لا شك فيه أنَّه قد أُحضرت إلى القاهرة رأس الإمام الحسين، وليس من مستغرب أن تكون قد غُسِّلَت في مسجد الصالح طلائع، ويؤيد هذه الرواية ما كشفت عنه الحفائر التي أجريت سنة (1945م)، من وجود مبانٍ بجوار الجهة الشرقية للواجهة البحرية لجامع الصالح طلائع، عليها كتابات أثرية منها: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر:46]، ومثل هذه العبارة تكتب عادة على مداخل المدافن؛ ولذلك فإنه من المرجح أن تكون هذه الكتابات من بقايا المشهد الذي بناه الصالح طلائع مجاورًا لمسجده؛ لكي يدفن فيه رأس الحسين (كما ذكر ابن دقاق).
كما جاء في كتاب «العدل الشاهد في تحقيق المشاهد»: «أنَّ المرحوم عبد الرحمن كَتْخُدَا القزدغلي لَمَّا أراد توسيع المسجد المجاور للمشهد الشريف سنة (1175هـ)، قيل له إن هذا المشهد لم يثبُت فيه دفن فأراد تحقيق ذلك؛ فكشف المشهد الشريف بمحضر من الناس، ونزل فيه: الأستاذ الجوهري الشافعي، والأستاذ الشيخ الملَّوي المالكي، وكانا من كبار العلماء العاملين، وشاهدا ما بداخل البرزخ، ثم ظَهَرَا بما شاهداه، وهو كرسي من الخشب الساج، عليه طشت من ذهب، فوقه ستارة من الحرير الأخضر، تحتها كيس من الحرير الأخضر الرقيق، داخله الرأس الشريف، فانبنى على إخبارهم تحقيق هذا المشهد، وبني المسجد والمشهد، وأوقف عليه أوقافًا يصرف على المسجد من ريعها.
واختتم علي جمعة قائلاً: وبعد هذا التحقيق العلمي الحاسم -وما قدمناه قبله- لم يبقَ وجه للملاحاة والجدل حول هذا الموضوع، ويجب العلم بأنَّه ليس من أمهات العقائد حتى تتاجر به (هيئات المنتفعين بالدعوة الوهابية)، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والحسين هو الحسين، أمس واليوم وغدًا، إلى يوم القيامة، ولينطح الصخر من أراد أن يدمر رأس نفسه.