يواجه عالم اليوم خطرا قديما متجددا بسبب تغير المناخ، خطر تتضح تداعياته وتتعاظم باطراد مستمر، كما تتعدد صوره وتتكرر من منطقة إلى أخرى ومن فصل إلى آخر، مهددا بخسائر كبيرة في الأرواح والموارد وبفناء محتمل للبشرية ما لم يتكاتف الجميع لمواجهته.
ومن الظواهر الدالة على ذلك الخطر تباطؤ تدفق نهر الراين الذي يعد بمثابة شريان الحياة لألمانيا خلال الصيف الماضي بسبب موجة جفاف انعكست على قلة أعداد سفن الشحن التي تصل عبره، بالإضافة إلى تعرض باكستان لرياح موسمية أدت إلى حدوث فيضانات غير مسبوقة في تاريخها، بلغت شدتها ثمانية أضعاف متوسط السيول التي جرفت الأراضي الزراعية ودمرت الثروة الحيوانية ومظاهر الحياة بشكل عام.
الجوع وكوارث الطبيعة جراء تغير المناخ
ولفت تقرير لصحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية إلى أنه في الوقت الذي يحذر فيه خبراء المناخ من الأضرار الجسيمة لاستمرار ارتفاع درجات الحرارة على الظواهر المناخية، يزداد معدل تكرارها من فيضانات وعواصف وحرائق وشدتها، بشكل يدعو إلى القلق، وفي عام 2022 وحده أنفقت الحكومات المليارات لحماية بلادها من تداعيات ما بعد الكوارث الطبيعية من حرائق الغابات في إسبانيا إلى موجات الجفاف في إثيوبيا وكينيا والصومال.
وتوقع تقرير صادر عن مجموعة "سويس ري" لإعادة التأمين العام الماضي أن يؤدي الاحتباس الحراري إلى تقليص حجم الناتج الاقتصادي العالمي السنوي بنسبة 14% أي ما يعادل 23 تريليون دولار بحلول عام 2050، وهو ما سيفاقم معاناة الاقتصادات والبشر على السواء خاصة في الدول ذات الدخل المنخفض، ومن المتوقع أن يؤدي الجفاف الذي ضرب منطقة القرن الأفريقي إلى تعميق أزمة نقص الغذاء بسبب عدم هطول الأمطار للموسم الخامس على التوالي.
وقال ديفيد بيزلي، المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للغذاء، إنه يتعين على العالم اتخاذ إجراءات سريعة لحماية المجتمعات الأكثر تضررا من خطر اتساع رقعة المجاعة في القرن الأفريقي، مضيفا أنه لا بد من البحث عن موارد لإنقاذ البشر من الوصول إلى مستويات كارثية من الجوع، حيث أدى نقص الأمطار لفترة طويلة إلى نزوح أكثر من 1.1 مليون إنسان من منازلهم وإنشاء مخيمات مكتظة بالبشر في مختلف أنحاء إثيوبيا وكينيا والصومال.
وكثيرا ما دخل أفراد القبائل ورعاة الماشية في صراعات تاريخية متكررة في محاولة منهم لبسط النفوذ على الأقاليم ومواردها الطبيعية، ويرى الخبراء أن تغير المناخ زاد من حدة هذه الصراعات العنيفة، التي يكافح كل طرف من أطرافها من أجل توفير الطعام لمجتمعه، وقد أودت هذه الصراعات بحياة أكثر من نصف مليون إنسان خلال آخر 50 عاما، ونتج عنها خسائر اقتصادية تفوق تكلفتها 70 مليار دولار، وتقول فانيسا ناكيت وهي ناشطة أوغندية سابقة في المجال البيئي، إنه لا ينبغي النظر إلى آثار تغير المناخ فقط كبيانات وإحصائيات، بل إن الأمر يتعلق بحياة البشر.
وفي بقاع أخرى من العالم تعد الأعاصير هي الكارثة المناخية الأسوأ، والتي يرجع العلماء ارتفاع وتيرة حدوثها وحدتها إلى تغير المناخ، ففي وقت مبكر من هذا العام ضرب إعصاران من الدرجة الرابعة منطقة البحر الكاريبي والساحل الجنوبي الشرقي من الولايات المتحدة، مخلفا خسائر وتلفيات قدرت بمليارات الدولارات وأودت بحياة المئات من السكان.
الدول الغنية لن تنجو من أضرار تغير المناخ
وخلال الاثني وعشرين شهرا الماضية عانت الولايات المتحدة من حدوث كوارث متعلقة بالمناخ تسببت كل منها في خسائر بقيمة مليار دولار، كانت إحداها هي موجة الحرارة والجفاف في المناطق الشرقية من البلاد، التي سجلت بسببها بحيرة "ميد"، وهي أكبر خزان مائي من صنع البشر في العالم وتمد 25 مليون إنسان باحتياجاتهم من المياه، أدنى منسوب لها على الإطلاق، وبشكل عام فقد سجل منسوب المياه بالبحيرة انخفاضا قدره 170 قدما منذ عام 2000، مما قلص الإنتاج الزراعي في المنطقة.
ويرى عدد من العلماء أن الجفاف الذي ضرب أوروبا والصين وأمريكا الشمالية هذا العام كانت احتمالات حدوثه تبلغ 20 ضعف احتمالاته الطبيعية بسبب تغير المناخ الناتج عن النشاط البشري، ويرجحون أن يصبح الجفاف في فصل الصيف أشد وأكثر تكرارا.
وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن الحرائق في غرب ووسط لبلاد التهمت منطقة تفوق في مساحتها ولاية نيو جيرسي، وأن الخزانات أصبحت خالية من المياة، وأن نهر كلورادو تحول إلى جدول مائي صغير.
وفي مناطق مختلفة من أوروبا أتت حرائق الغابات على مئات الآلاف من الهكتارات بما فيها عدد كبير من الأراضي الزراعية، ففي إسبانيا التهمت النيران ما يقرب من 300 ألف هكتار هذا العام، وهو ما يعادل أربعة أضعاف ونصف من المعدل السنوي الطبيعي لها في آخر 15 عاما، مخلفة خسائر بقيمة 2.9 مليار دولار، كما تجاوز معدل حرائق الغابات بسبب النشاط البشري في دول البحر المتوسط معدلاته الطبيعية، ويقول علماء المناخ أن الحرائق تزداد بسبب ارتفاع درجات الحرارة والجفاف اللذين يوفران ظروفا مواتية لاندلاع المزيد منها مستقبلا.
وفي ذات السياق شهدت المملكة المتحدة ارتفاعا قياسيا في درجات الحرارة وصل إلى 40 درجة مئوية خلال الصيف الماضي، مما أدى إلى اشتعال حرائق ألحقت أضرارا جمة بالطرق والسكك الحديدية في لندن، التي حذر عمدتها من تزايد هذه الظاهرة مستقبلا إذا لم تتخذ إجراءات قوية لمواجهة أزمة تغير المناخ.
الدول الفقيرة تطالب بدعم مستحق
وفي وقت تصبح فيه الحاجة إلى خفض الانبعاثات الكربونية أكثر إلحاحا، تطالب دول العالم الفقيرة الدول الغنية بتقديم الدعم المالي لها لمساعدتها على معالجة الأضرار والخسائر الناتجة عن تغير المناخ، كما يطالب ناشطو القضية المسئولين بتنفيذ وعودهم بهذا الشأن واتخاذ خطوات عملية وسريعة لإيجاد حلول للأزمة، مؤكدين أن تكلفة تغير المناخ لن تقف عند حدود الخسائر في الأموال والممتلكات.
وقالت ناكيت خلال قمة جلاسجو للمناخ العام الماضي إن تقليل الانبعاثات الكربونية لا يكفي لمعالجة الأزمة، وأنه لا يسع العالم قبول اندثار الثقافات والتقاليد والتاريخ، أوالتكيف مع تفشي المجاعات وصولا إلى خطر انقراض الجنس البشري.