على خلفية أزمة مالية تعصف باقتصادات العالم، وفي وقت تكافح فيه حتى الاقتصادات الكبيرة التي اتسمت بالاستقرار لعقود طويلة لتخفيف حدة أثرها، يشدد الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) سياسته النقدية برفع أسعار الفائدة لسحب السيولة النقدية من الأسواق وكبح جماح التضخم، لكن هذه الإجراءات لا تبدو كافية لتحقيق هذا الهدف.
أنباء سيئة لـ الاحتياطي الفيدرالي
وحسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، فتلقى مسئولو الاحتياطي الفيدرالي أنباءً محبطة وإن كانت متوقعة، حيث استمرت وتيرة التضخم وكذلك معدلات الأجور والمزايا الوظيفية، التي يتابعها المسئولون عن كثب، في الارتفاع.
وكان الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة 5 مرات متتالية هذا العام منذ مارس الماضي في محاولة لخفض الطلب من المستهلكين وأصحاب الأعمال، على أمل خفض التضخم الذي يتزايد بشكل أسرع من معدلاته السابقة خلال أربعة عقود.
وحتى الآن لم تؤد هذه السياسات إلى تحسين الوضع الاقتصادي بشكل ملحوظ، حيث ارتفع مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي بنسبة 6.2% على أساس سنوي خلال سبتمبر الماضي استمرارا لارتفاعه في أغسطس، فحتى مع استبعاد أسعار الطعام والوقود المتغيرة من شهر لآخر، ارتفعت الأسعار الاستهلاكية عن مثيلتها للعام الماضي بنسبة 5.1% على أساس سنوي، بمعدل زيادة أسرع من نسبة 4.9% المسجلة خلال أغسطس الماضي.
لماذا يعد ارتفاع الأجور مؤشرا سيئا؟
وتحاول البنوك المركزية في مختلف دول العالم توقع توقيت انخفاض التضخم، وتترقب أي مؤشر على تباطؤ سوق العمل ومن ثم تراجع النمو السريع للأجور، كمؤشر على تراجع التضخم، لكن من الصعب أن ينخفض التضخم مع تزايد الاستهلاك بالوتيرة التي وصل إليها مؤخرا، وتحاول الشركات التي تتكبد فواتير أجور مرتفعة أن تحمل المستهلكين جزءاً من تكلفة هذه الفواتير.
وسجل مؤشر تكاليف التوظيف، وهو مقياس ربع سنوي للتضخم يراقب التغيرات في فواتير أجور ومزايا العاملين، ارتفاعا بنسبة 1.2% خلال الربع الثالث من يوليو إلى سبتمبر من هذا العام، مقارنة مقارنة بالربع الثاني من أبريل إلى يونيو، وهو ما يتماشى مع توقعات خبراء الاقتصاد في وكالة "بلومبرج" لنتائج مسح أجرته لقياس تغير النسبة.
ويوضح ارتفاع مؤشر تكاليف التوظيف حدوث زيادة في معدل التضخم بنسبة 5% على أساس سنوي، بانخفاض طفيف عن نسبة 5.1% التي أظهرها تقرير عن مؤشرات العام السابق، لكن تظل هذه المعدلات مرتفعة مقارنة بمتوسط زيادة سنوي يدور حول 2.2% في العام خلال العقد السابق على جائحة كورونا، وهو ما يوضح مدى تسارع الأرباح في الوقت الحالي.
الاحتياطي الفيدرالي يستعد لرفع جديد في أسعار الفائدة
ومن المقرر أن يجتمع أعضاء الاحتياطي الفيدرالي الأسبوع المقبل، ومن المتوقع أن يتم الإعلان عن زيادة جديدة في أسعار الفائدة بنسبة ثلاثة أرباع نقطة مئوية يوم الأربعاء، رغم توقعات المسئولين سابقا بزيادتها بمقدار نصف نقطة مئوية فقط بحلول ديسمبر المقبل، وسيترقب المستثمرون أي إشارة على اقتراب هذا الانخفاض، خلال المؤتمر الصحفي الذي سيعقده جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي عقب انتهاء الاجتماع.
وصرح مسئولو الاحتياطي الفيدرالي بأنهم سيعملون على الحد من ارتفاع أسعار الفائدة، لكنهم يخططون بعد ذلك لتركها في مستويات عالية لبعض الوقت، وقد يؤدي هذا إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وخفض التضخم من جانب، في وقت يحاولون فيه تجنب ركود اقتصادي شديد على الجانب الآخر.
وتوقع المسئولون تسارع ارتفاع التضخم منذ الشهر الماضي، وقد أظهر مؤشر أسعار المستهلكين الذي صدر في منتصف أكتوبر، ارتفاعا سريعا للتضخم في سبتمبر.
لكن بيانات الأجور للربع الثالث من هذا العام قد تؤثر على تفكير صانعي السياسات ولو بشكل طفيف، ويترقب مسئولو الاحتياطي الفيدرالي صدور مؤشر تكاليف التوظيف الذي يخلو من الأخطاء التي تؤثر على مقاييس الأجور الأخرى، بما فيها متوسط الأرقام الشهرية للأرباح بالساعة، التي تمثل التغيرات في تركيبة قوة العمل، فعلى سبيل المثال، إذا ترك الكثير من العمال ذوي الأجور المنخفضة وظائفهم، فقد يرتفع مقياس الدخل في الساعة بشكل مفاجئ.
وفي العام الماضي استعان مسئولو الاحتياطي الفيدرالي ببيانات مؤشر تكلفة التوظيف التي كانت عاملا رئيسي في تغير موقفهم نحو تسريع التوقف عن دعم الاقتصاد.
التضخم مستمر
وفي وقت مبكر من هذا العام، بدا من الممكن أن يتراجع معدل التضخم، وكان الافتراض السائد أن أسعار السلع المستوردة، خصوصا تلك التي يتم شحنها من الصين والبلدان الأخرى في حاويات كبيرة، ستنخفض مع حل مشكلات سلاسل التوريد المرتبطة بجائحة كورونا وتراجع سعر النفط من المستويات المرتفعة التي بلغها بعد غزو روسيا لأوكرانيا.
والحقيقة أن هذا الانخفاض المتوقع في أسعار بعض السلع قد حدث بالفعل، فباستثناء الغذاء والطاقة لم ترتفع أسعار كل السلع الأخرى في مجموعها على الإطلاق في الشهر الماضي، حسبما أوضح تقرير مؤشر أسعار المستهلك. وهبطت أسعار بعض السلع التي تُشترى على نطاق واسع وتشمل الملابس والأحذية والسيارات المستعملة والأجهزة المنزلية الرئيسية والهواتف الذكية ولوازم الرياضة.
لكن المشكلة هي أن مثل هذه الأصناف تشكِّل أقل من ربع مؤشر أسعار المستهلك، وبالمقابل حدثت قفزات مقابلة تلغي هذا التحسن في أسعار منتجات أخرى تلعب دورا أكبر في الإنفاق العائلي مثل الغذاء الطاقة وخدمات مختلفة كإيجار المسكن والسفر الجوي والرعاية الطبية. وكان التضخم في أسعار الخدمات وليس في أسعار السلع هو ما حال دون انخفاض التضخم العام بقدر كبير.