عبر باحثون في السياسة الخارجية والأمنية الأمريكية عن مخاوفهم من أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ربما تدفع الصين لتتحرك على نحو مماثل في جزيرة تايوان، غير أن هذه الرؤية – وفقا لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية - بها قصور كبير، حيث إن الصراع في أوروبا (الحرب الروسية الأوكرانية) لا يمكن أن يكون حافزا مباشرا لحملة عسكرية صينية ضد تايوان، بل يمكن النظر إليه كفرصة لا تقدر بثمن لمخططي الحرب الصينيين للتعرف على نقاط ضعفهم في ساحة المعركة.
وذكرت المجلة الأمريكية أن بكين ليست في حالة تصعيد طائش أو انتحاري، بل على العكس من ذلك، ينظر المخططون العسكريون الصينيون إلى قدراتهم العسكرية بحذر ملحوظ، فبعد ثمانية أشهر من الحرب في أوكرانيا، ومع ما وصفته المجلة بـ "الإخفاق الروسي في تحقيق الأهداف المطلوبة"، فإن الأزمة الأوكرانية ربما دفعت الجدول الزمني لهجوم صيني ضد تايوان إلى الوراء وليس إلى الأمام، خشية الصورة التي قد تصبح عليها "الحملة الصينية متهورة أو ضعيفة الإعداد" في تايوان.
وأشارت "فورين بوليسي" إلى أن العلاقة العسكرية بين الصين وروسيا القائمة منذ عقود تساعد على تفسير سبب رؤية القادة الصينيين لميزان القوى في مضيق تايوان بحذر شديد، حيث اعتمد الحزب الشيوعي الصيني في تنظيم جيش التحرير الشعبي الصيني (PLA) على النموذج السوفيتي واستورد كمية كبيرة من الأسلحة المتطورة من موسكو، وعندما يرى القادة الصينيون نتائج العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإن ذلك يدفعهم إلى التفكير أنهم إذا خاضوا حربا ضد جزيرة تايوان وفشلوا في الاستيلاء عليها، فإن ذلك سيؤدي إلى انهيار الحزب الشيوعي الحاكم.
واقتصاديا، تميل الصين منذ فترة طويلة نحو الغرب، والدول الغنية في العالم الديمقراطي التي أدى طلبها على السلع والموارد الصينية إلى تغذية عقود من النمو الاقتصادي السريع، وأخرج مئات الملايين من الصينيين من براثن الفقر، لكن عسكريا، كانت الصين تحت حظر أسلحة من الشركاء التجاريين في الغرب (الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة) منذ أحداث العنف ضد الطلبة في ميدان "تيانامين" في بكين عام 1989، ما دفعها إلى اللجوء إلى موسكو "القوة الصناعية الدفاعية العالمية الوحيدة التي أبدت حينها رغبة في العمل مع بكين".
وحيث إن أحداث ميدان تيانامين أدت حينها إلى تحويل الصين إلى أحد أكثر الأنظمة عزلة في العالم، ناشدت الحكومة الصينية الاتحاد السوفيتي المنهار للمساعدة في قطاع الدفاع، لتمر علاقات التعاون العسكري بين الجانبين بمراحل صعود وهبوط قبل أن تزدهر في الألفية الجديدة.
ووفقا لتقديرات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، كانت الصين أكبر مستورد للأسلحة في العالم بين عامي 2003 و2007 بحصة عالمية تبلغ 12 في المائة من إجمالي المشتريات العالمية، وثاني أكبر مستورد بين عامي 2009 و 2013 بحصة 4.8 في المائة، والسادس خلال الفترة من 2014 إلى 2018 بحصة 4.2 في المائة، وأن الغالبية العظمى من هذه الواردات جاءت من روسيا.
ويعكس الانخفاض في حصة الصين في سوق استيراد الأسلحة العالمية، خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، القدرة الجديدة لصناعة الدفاع الصينية على تلبية متطلبات جيش التحرير الشعبي الصيني، حيث تسارعت عملية إحياء المجمع الصناعي العسكري في ظل حكم الرئيس الصيني الحالي "شي جين بينج"، الذي أعطى الأولوية للابتكار الدفاعي المحلي والاكتفاء الذاتي.
ومع ذلك، فإن جنرالات جيش التحرير الشعبي المسؤولين عن نظام التسلح في البلاد لا يرون أية غضاضة أو تناقض بين التعاون الدفاعي مع جهات خارجية وفي الوقت نفسه تطوير أسلحة محلية الصنع، ففي العام 2012، كتب الليفتنانت جنرال "لي أندونج" مدير إدارة التسليح العام بجيش التحرير الشعبي الصيني، مقالا في مجلة عسكرية صينية، حث فيه على تكثيف أبحاث الدفاع الصينية مع "اغتنام الفرص وتنفيذ التعاون الدولي بنشاط، لاسيما مع روسيا"، وسط توقعات بألا تكون هناك "مجالات محظورة" في التعاون بين الجانبين خاصة في التطوير المشترك للتكنولوجيا العسكرية، بعد إعلان رئيسي الدولتين عن شراكة بلا حدود.
وترى المجلة الأمريكية أنه رغم ذلك، فإن الوضع العسكري الحالي لروسيا في أوكرانيا يثير مخاوف الصين، حيث تمكن الأوكرانيون –المسلحون بأسلحة ومعدات عسكرية غربية- من عكس الكثير من المكاسب الروسية التي حققتها في بداية المعركة، وذلك خلال سلسلة مستمرة من الهجمات المضادة التي بدأتها القوات الأوكرانية في أوائل سبتمبر الماضي.
وتعود المخاوف الصينية إلى التشابه الهيكلي في القيادة والسيطرة بين جيش التحرير الشعبي الصيني ونظيره الروسي، من حيث الاعتماد المفرط على الضباط الصغار ومتوسطي الخبرة، وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق من منظور صيني هو أن الجيش الروسي الذي يحارب حاليا في أوكرانيا هو أكثر تمرسا على خوض المعارك من الجيش الصيني.
ورغم أن الصين عززت التدريبات العسكرية في السنوات الأخيرة لخلق انطباع بأن جيش التحرير الشعبي يمكنه بالفعل تنسيق قيادة جوية وبرية وبحرية موحدة لغزو تايوان، لكن المخططين العسكريين في بكين ربما يتساءلون عما إذا كان جيش التحرير الشعبي يستطيع تقديم أداء أفضل من نظيره الروسي ضد ما يعد في بعض النواحي هدفا أصعب من أوكرانيا (جزيرة جبلية محمية بشدة وتمتلك ترسانة أكبر وأكثر تقدما من طائرات أمريكية وأوروبية وأنظمة دفاع جوي وأنظمة بحرية وقوات برية).
بلا شك، سيتعين على الصين –حال قررت ضم تايوان- نشر قواتها على مسافة كبيرة في الجزيرة عن طريق البحر والجو، وهي مهمة هائلة ومعقدة لم يواجهها الروس في أوكرانيا، وفي ظل مراقبة تايوان والولايات المتحدة والكثير من دول العالم بعناية شديدة كل تحرك عسكري للصين في محيط مضيق تايوان، سيكون من الصعب تحقيق العنصر الحاسم للمفاجأة الاستراتيجية الضرورية لغزو ناجح.
وفي حين يجب أن تكون الحرب الروسية بنتائجها الحالية مصدر إلهام وحذر بين كوادر جيش التحرير الشعبي الصيني، غير أنه سيكون من الخطأ الاعتقاد أن حرب أوكرانيا ستقنع الصين بعدم محاولة السيطرة على تايوان، أو أنها ستمنعها من استخدام القوة لمتابعة مطالبها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي أو في أي مكان آخر.
يذكر أنه قبل عام من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أصدرت السلطات الصينية جدولا زمنيا جديدا لجيش التحرير الشعبي لتحقيق أهداف التحديث الرئيسية بوتيرة أكثر إلحاحا، وكرر الرئيس الصيني "شي جين بينج" ذلك في خطابه الرئيسي في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني هذا الشهر (الذي أعيد انتخابه فيه لدورة ثالثة)، عندما دعا إلى "الارتقاء بشكل أسرع بجيش التحرير الشعبي إلى المعايير العالمية" والحاجة إلى تحقيق أهداف التطوير العسكري الرئيسية غير المحددة بحلول العام 2027 بدلا من تحقيقها في العام 2035.
ويشير ذلك إلى أن قادة جيش التحرير الشعبي يواجهون معضلة مقلقة على مدى السنوات القليلة المقبلة، حيث تُظهر الدروس المستفادة من الحرب الروسية في أوكرانيا أن الصين تحتاج عسكريا إلى مزيد من الوقت لتقوية وتجديد مؤسستها العسكرية لمعالجة أي نقاط ضعف أو ثغرات أبرزتها ساحة الحرب الأوكرانية.
وعلى الرغم من ذلك، فمن الناحية السياسية، أصبحت بكين قلقة بشكل متزايد من أن هدفها المتمثل في إعادة التوحيد مع تايوان في خطر متزايد بسبب تعميق العلاقات بين تايوان والولايات المتحدة وحلفائها، وقد يجد جيش التحرير الشعبي الصيني نفسه مضطرا إلى التحرك قبل أن يصبح جاهزا للقتال.