في جولة جديدة من الصراع التاريخي بين القطبين العالميين الكبيرين، يأمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تمزيق الإجماع الأمريكي على تقديم كل مساعدة ممكنة لأوكرانيا، ويبدو أن أمله على وشك التحقق اليوم أكثر من أي وقت مضى.
نغمة معارضة مساعدات أوكرانيا تتصاعد
ولا أدلة على وجود مشكلات فيما يتعلق بإمدادات المساعدة العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، والتي بلغت تكلفتها حتى الآن 18 مليار دولار، لكن هناك أصوات تتعالى بمعارضة شديدة للتدخل الأمريكي اللامتناهي في الحرب قبل أسبوعين فقط من انطلاق انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقررة في نوفمبر المقبل.
ومن المؤكد أن بوتين سيتنفس الصعداء حال رؤيته أي بادرة تلمح لنية الولايات المتحدة خفض وتيرة هذا التدخل، في وقت يستعد فيه سيد الكرملين لفرض شتاء مؤلم على الأوكرانيين وعموم الأوروبيين الذين يعتمدون على الغاز الروسي كمصدر للطاقة والتدفئة بشكل كبير.
وحسبما ذكرت قناة سي إن إن الأمريكية، فقد نشر الديمقراطيون بيانا موقعا في يونيو الماضي، يطالب البيت الأبيض أن يجمع بالتوازي بين مساري جهود تسليح أوكرانيا والجهود الدبلوماسية للتوصل لاتفاق وقف إطلاق نار مع روسيا، إلا أن الديمقراطيين ما لبثوا أن سحبوا البيان في تصرف يمكن وصفه بالكارثة السياسية.
وجاء هذا بعد أيام قليلة من تحذير كيفن ماكارثي زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب والمرشح لرئاسته، من توقع كييف لرصيد مفتوح من الدعم الأمريكي في حال سيطر الجمهوريون على السلطة العام القادم، كما انتقد الرئيس الأمريكي السابق والمرشح المستقبلي المحتمل للانتخابات الرئاسية القادمة دونالد ترامب التكاليف الباهظة التي تتكبدها واشنطن لمحاربة "بطله المفضل" بوتين، الذي سبق أن اتهم بالتدخل لإنجاح ترامب في انتخابات 2016، مما أدى إلى محاولة الكونجرس محاكمته وعزله من منصبه.
ومن الواضح أن هناك إجماعا من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري على ضرورة دعم أوكرانيا، لكن مواقف بايدن المتشددة ضد روسيا قد لا تحظى بنفس الإجماع، ومن المفارقة أن هذا قد يحدث في وقت يسعى فيه الغرب لتشويه سمعة روسيا بسبب تلويحها بإمكانية اللجوء للسلاح النووي في حربها على أوكرانيا، تحت ذريعة تخوفها من استخدام كييف للقنبلة القذرة.
ويعد هذا مؤشرا واضحا على تراخي العزيمة السياسية في الولايات المتحدة وبعض حلفائها، وهو ما يبعث برسائل طمأنة لبوتين أن حرب الاستنزاف التي ينوي القيام بها في الشتاء ستؤدي حتما إلى إنهاك الغرب وإضعاف قدرة أوكرانيا على الصمود.
الموقف الأمريكي من أوكرانيا محل تساؤل
يطرح المراقبون للمواقف الأمريكية تساؤلات مهمة ووجيهة، فالسياسة الخارجية التي كانت تنتهجها الولايات المتحدة ضد خصمها السابق في الحرب الباردة ومنافسها النووي، تحتاج من الرئيس بايدن لإعادة تقييم وتعديل وفقا لحسبة التكاليف والأخطار.
ويقول الواقع إنه لا توجد فرصة لمسار دبلوماسي لحل النزاع، وهي حقيقة تستحق المناقشة وربما الاختبار من خلال فتح قنوات اتصال مع موسكو، وفي وقت تتفاقم فيه أزمة التضخم والتحديات الاقتصادية في الولايات المتحدة، يتوجب على الإدارة الحالية وداعميها تفسير الأمر لدافعي الضرائب وشرح الأسباب التي تجعل حربا في أقاصي أوروبا تبتلع مليارات من أموالهم العامة، حتى إذا لم يكن الأمر يتعلق بدعم لانهائي كما وصفه مكارثي.
ويكمن الخطر في أن وجود هذه الخلافات يصب في صالح بوتين، الذي أظهر مقدرة كبيرة على استغلالها لتوسيع هوة الانقسامات السياسية داخل الولايات المتحدة، من خلال تدخله في مسار انتخابات 2016 والسيطرة على ترامب إلى حد دفعه لمهاجمة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في مؤتمر صحفي.
ويبرز سؤال هام عن مدى اكتراث الغرب بالحرب كما يفعل بوتين الذي قد تعتمد نجاته سياسيا على النصر أو على الأقل عدم الهزيمة، وكذلك عن نية الغرب الدخول في دائرة من التصعيد، في مخاطرة باندلاع حرب نووية موسعة.
وتعد الشروط التي تطرحها روسيا لإبرام أي اتفاق سلام عقبة أمام تحقيق هذا الهدف، حيث تتشبث بمكاسبها على أرض المعركة وتصر على تضمينها في أي اتفاق، وقد ضمت عدة أقاليم أوكرانية، وهو ما يستحيل معه قبول كييف لأي من شروطها، وفي نفس الوقت لا يستطيع بوتين التراجع عن هذه الإجراءات لأن من شأن التراجع أن يلحق به هزيمة يكافح بكل ما أوتي من قوة لتجنبها.
ومع وجود إمكانية للتفاوض، فمن غير المعروف كيف تستطيع الولايات المتحدة تقريب وجهات النظر بين الطرفين، وقد شدد بايدن مرارا وتكرارا على رفضه التفاوض على مصير الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كما قد يريد بوتين.
ماذا تعني استعادة الجمهوريين لأغلبية الكونجرس بالنسبة لأوكرانيا؟
من المتوقع أن تشعر الإدارة الأمريكية بالقلق من إمكانية تبني مجلس النواب توجه ترامب بعد انتخابات التجديد النصفي، وخاصة مع ترديد عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين قوله المأثور "أميركا أولا" على نطاق واسع، وقال مكارثي في حوار أجراه معه موقع بانشباول الإخباري الأمريكي الأسبوع الماضي، إنه يعتقد أن الشعب الأمريكي الذي يعاني الركود لن يوقع " شيكا على بياض" لأوكرانيا.
ولا يعني هذا التصريح أن مكارثي يؤيد وقف المساعدات، بل ربما يريد فقط خلق مجال سياسي لنفسه مع معرفته بحساسية القضية داخل أروقة حزبه المؤيد لترامب، وبافتراض فوزه برئاسة مجلس النواب، سيعمد مكارثي إلى تمرير قرارات دعم أوكرانيا ماليا بموافقة كلا من الجمهوريين والديمقراطيين.
وفي اتساق مع مواقف مكارثي، قال جي دي فانس المرشح الجمهوري عن ولاية أوهايو، إنه لا يكترث بما حدث في أوكرانيا قبل الحرب، وأن هناك قضايا أخرى يجب أن تأتي على رأس الأولويات مثل تدفق المهاجرين عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، ويمثل فانس جيلا جديدا من أعضاء مجلس الشيوخ الذين يعارضون المساعدات لأوكرانيا أكثر من الأعضاء الكبار من أمثال زعيم الأقلية ميتش ماكونيل وليندسي جراهام.
ويكثر ظهور المعارضين لدعم أوكرانيا في وسائل الإعلام المحافظة، لكنهم يغفلون التداعيات الأهم للحرب الدائرة فيها، فالأمر لا يتعلق بدعم دولة في أقاصي أوروبا، بل يتعدى ذلك للدفاع عن حليف للولايات المتحدة.
وسيكون لهذا الوضع تداعياته على نزاعات أخرى، فمع مخاوف متزايدة في تايوان من إقدام الصين على إعادة ضمها وانتصار روسيا في أوكرانيا، سيمثل هذا تهديدا لحلفاء الولايات المتحدة في الناتو، ويجرها لمواجهة مباشرة مع روسيا.