تواجه القارة الأوروبية حاليا أزمات مالية متعددة الأبعاد وعلى درجة كبيرة من التعقيد، بشكل يدفع قادتها للتفكير خارج الصندوق ومخالفة الإجراءات المعتادة للتغلب عليها، ومع ضخامة المبالغ النقدية التي تنفق لتحقيق هذا الهدف، تتعالى الأصوات المطالبة بوضعها تحت رقابة وتتبع المؤسسات المالية الأوروبية خشية تبديدها.
أوكرانيا ثقب أسود يبتلع التمويل
وتلجأ المفوضية الأوروبية إلى استخدام أدوات خارج الميزانيات الرسمية لدول الاتحاد الأوروبي، في حالة عدم وجود فائض نقدي لتمويل برامجها، وقد ظهر هذا بوضوح خلال انتشار جائحة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية ودعم دول الاتحاد لأوكرانيا، وهما الحدثان اللذان خلقا احتياجا لتمويل ضخم قصير وطويل الأجل.
ومنذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، قدم الاتحاد الأوروبي مساعدات مالية لأوكرانيا بقيمة إجمالية تبلغ 2.2 مليار يورو، وتستعد المفوضية للحصول على قروض طويلة الأمد بقيمة 5 مليارات إضافية في أكتوبر الجاري للاستمرار في مساعدتها، بشكل يجعل البلد الذي مزقته الحرب يفيد من التصنيف الائتماني العالي لأوروبا.
وحسبما ذكرت صحيفة بوليتيكو الأمريكية، فإن عمليات الاقتراض التي تقوم بها أوروبا تأتي كرد فعل لأزمة غير متوقعة، وقد مولت التعافي من آثار الجائحة، حيث اقتسمت دول الاتحاد الأموال في محاولة لتجنب مراقبة البرلمان الأوروبي لأوجه إنفاقها قدر الإمكان، ورغم ذلك يواجه نجاح هذه العمليات تهديدات واقعية.
ويعد أول تلك التهديدات هو عجز أوكرانيا عن سداد ديونها، حيث يصعب التكهن بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه الحرب، وفي هذه الحالة توفر ميزانية الاتحاد الأوروبي تمويلا لبرنامج حماية من الخسائر بنسبة 9% للمستثمرين كمرحلة أولى، معززا بضمان من الدول الأعضاء بنسبة 61%، كمرحلة ثانية، لكن الواقع يوضح أنه لا يوجد بند إضافي في ميزانية الاتحاد الأوروبي، المعروفة بالإطار التمويلي طويل الأمد، لحل هذه المشكلة حال عجز أوكرانيا عن السداد ورفض الدول الأعضاء في الاتحاد للتدخل، ومن ثم التوقف الاضطراري لبرامج الدعم الأوروبي، ويعد التهديد الثاني هو احتمالات التلاعب وإساءة استخدام الأموال.
ورغم التضامن الأوروبي مع الشعب الأوكراني ودعم سيادة بلاده، تظل حقيقة أن الفساد كان مستشريا فيها نصب أعين الأوروبيين، حيث جاءت في المركز 122 على مؤشر مدركات الفساد العام الماضي مع دول مثل الجابون وزامبيا، وأوضح تقرير صادر عن محكمة المراقبين الأوروبية في سبتمبر 2021، أن الفساد في أوكرانيا يمثل مشكلة كبيرة، رغم جهود الاتحاد الأوروبي المستمرة لتحسين القوانين.
ولا يمكن لبرنامج المساعدة طويل الأمد أن يضمن رقابة دقيقة على عملية تحويل الأموال بشكل عام، ومن المحتمل أن تقع هذه الأموال في الأيادي الخطأ بكل سهولة، إذا لم تتدخل الضوابط والتوازنات الديمقراطية لمراقبتها، وفي حال حدوث عمليات احتيال كبرى في أوكرانيا سيكون رد الفعل العام عنيفا، فرغم ضرورة تقديم الدعم لها إلا أنه من المهم أيضا أن تنفق الأموال في مصارف تحقق أهداف الدعم وتضمن وصولها إلى الفئات الأكثر احتياجا لها من الشعب الأوكراني.
أموال أوروبا تتحرك بلا شفافية
ويحتمل أن يكون نقص المعلومات حول مسار الأموال، أسوأ من المخاطر المصاحبة لبرنامج المساعدة المالية طويل الأمد، وفي حين تتسم خطط الإصلاح والاستثمار ذات الأهداف والملامح الواضحة بقدر عال من الواقعية، لا يستطيع البرلمان الأوروبي التحقق من تلك المعلومات التي تعلنها المفوضية وأعضاء الاتحاد الأوروبي، كونها معلومات مبدئية لا تمكن البرلمان من تتبع مسار الأموال.
ومن المهم أن تقدم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لوائح تتضمن التدابير التي مولتها هذه الصناديق لكل من المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي، ويتوقع دافعو الضرائب في أوروبا أن يكون البرلمان جادا في مراقبة التمويل وأن يتأكدوا من أن إنفاق مبلغ الـ 750 مليار دولار (الذي اقترضته دول الاتحاد بشكل مشترك عام 2020 لتمويل نفقات التعافي من آثر جائحة كورونا) تم بشكل مشروع، وأن إنشاء صندوق لتمويل التعافي من جائحة كورونا بهذا المبلغ كان قرارا صائبا يعكس التلاحم بين شعوب الاتحاد.
ويؤكد رئيس لجنة الموازنة في البرلمان الأوروبي، أن اللجوء لحل الأزمات خارج الموازنة يساهم في تعقيد مشكلات مالية قائمة بالفعل، وينطوي على مخاطر تمويلية كبيرة، لكن الأخطر فيما يتعلق بهذه الحلول المبتكرة هو تقويض شرعية الاتحاد والمسائلة القانونية.
ولا توجد إدارة مالية موثوقة لكل من صندوق تمويل التعافي من الجائحة وبرنامج تمويل المساعدة طويل الأمد لأوكرانيا، أو مراقبة مالية عليهما من الاتحاد الأوروبي، لكن لابد من خضوع مصروفات كافة الدول الأوروبية لفحص وتدقيق برلماني، إذا كان الاتحاد يرغب في أن يتمتع بالقوة ويتجنب خسارة تأييد أغلبية مواطنيه.