رغم رحيل الكاتبة مي زيادة منذ 81 عاما، إلا أنها لازالت تفرض نفسها على الحياة الأدبية المصرية، ولازال هناك ما يمكن أن يقال عن تجربة مي زيادة الاستثنائية على مستوى الأدب والإبداع العربي بصفة عامة، وعلى مستوى الإبداع النسوي والصحافة النسائية بصفة خاصة، وعلى مستوى حياتها وعلاقاتها المتشابكة مع كل رموز الإبداع والفكر والثقافة في مصر.
وجمعت الكاتبة مي زيادة التي تحل اليوم ذكرى رحيلها، بين جمال الروح والجسد في تناغم عجيب، وألمت بالثقافة العربية والغربية إلمامًا مدهشًا، وأتقنت اللغات الأجنبية، وفضلا عن ذلك كان جمالها الروحي والجسدي مغريا للأدباء بحبها والتعلق بها وقد اشتهر بحبها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران الذي عرفها عن بعد وهو في المهجر الأمريكي واقتصرت العلاقة بينهما على تبادل الرسائل ولا شك أن صالونها الأدبي الذي كان يجتمع فيه كبار مثقفي العصر، زادها شهرة وتقديرا فالصالون الأدبي فكرة غربية محضة اشتهرت بها بعض كاتبات الغرب فضلا عن كتابه وإنشاؤه وترسيخه في المجتمع العربي الخارج لتوه من عصر الظلمات فكرة خلاقة مدهشة تؤكد أن المرأة ليست مجرد وجه جميل ورحم ولود.
ونشرت مي زيادة مقالات أدبية ونقدية واجتماعية منذ صباها فلفتت الأنظار إليها، وكانت تعقد مجلسها الأدبي كل ثلاثاء من كل أسبوع وقد امتازت بسعة الأفق ودقة الشعور وجمال اللغة، ونشرت مقالات وأبحاثًا في كبريات الصحف والمجلات المصرية، مثل المقطم، والأهرام، والزهور، والمحروسة، والهلال، والمقتطف.
باكورة إصدارات مي زيادة
أما الكتب، فقد كان باكورة إنتاجها في عام 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية وأول أعمالها بالفرنسية كان بعنوان "أزاهير حلم"، وفيما بعد صدر لها "باحثة البادية" عام 1920، و"كلمات وإشارات" عام 1922، و"المساواة" عام 1923، و"ظلمات وأشعة" عام 1923، و"بين الجزر والمد" عام 1924، و"الصحائف" عام 1924.
ظلم مي زيادة
وعانت الكاتبة مي زيادة، الكثير من الظلم حسب ما جاء في كتاب "الذين قالوا مي" للشاعر شعبان يوسف، ولم يكن الظلم خاصا فقط بها وبإبداعها وبمسيرتها الأدبية والفكرية، بل تعرضت له كثيرات من الكاتبات والشاعرات والأديبات والمبدعات عموما بأشكال عديدة وذلك على مدى القرن العشرين.
وتعد مي زيادة أكثر الكاتبات تعرضا للإيذاء والاغتيال المعنوي منذ أن بدأت الكوارث تتواتر على حياتها بعد رحيل الأب والأم، ثم تآمر الأهل عليها ومحاولات السطو على ميراثها، فهي نموذج صارخ وحاد ودال على ثقافة الاستبعاد والتهميش والتسخيف والتقليل الدائم من شأن المنتج الإبداعي أو الفكري أو الثقافي للمرأة وتجاهله، وكل هذه الأفعال قد أحاطت بها منذ ضلوعها الواضح في المشاركة الجادة والفاعلة في صياغة المشهد الثقافي المصري والعربي بقوة، ومساهماتها المتنوعة في كافة المحافل المتاحة فى مصر، وكان المتربصون يعملون ضدها بوتائر مختلفة، مرة بالنقد السلبى والمتعسف، ومرة أخرى بالاستخفاف، ومرة ثالثة بالتجريح، ومنذ أن بدأت مى الكتابة للصحف، أصبحت ملء السمع والبصر، وكانت كتاباتها تنافس كتابات كتّاب كبار كان لهم حضور ثقافي بارز منذ زمن يسبق زمنها بكثير، كتاب من طراز عباس محمود العقاد وسلامة موسى وابراهيم عبد القادر المازنى وزكى مبارك وغيرهم، ومن ثم قفز اسمها عاليا فى الحياة الأدبية والثقافية المصرية والعربية، وأصبح لها قرّاء فى مصر والعالم العربي، وبدأت تطلبها الصحف والمجلات لاستكتابها بجد وبإلحاح، وأصبح لكتاباتها حضور عميق وبالغ الأهمية فى المجال الأدبي والفكري وكتابة المرأة عموما، ذلك الحضور كان بين الكتاب والمبدعين والقراء على حد سواء.
حقيقة العلاقة بين مي زيادة والعقاد
وصف الأديب الكبير الراحل عباس العقاد، الأديبة الراحلة مى زيادة بالحصن المحاط بالخندق، بحسب ما ذكره الكاتب الصحفي الكبير أنيس منصور في كتابه "في صالون العقاد كانت لنا أيام"، العقاد ومى كانت تربطهما علاقة وطيدة، البعض قال إنها صداقة كبيرة، وخرجت بعض التكهنات بأن علاقتهما تطورت إلى الحب والغرام، فيما كان للأديب الجزائرى الشهير واسينى الأعرج رأى آخر، أعلنه خلال مشاركته بمعرض القاهرة الدولي للكتاب خلال دورته الـ49، والتي اختتمت بأرض المعارض، بأن العقاد أراد أن يقيم مع مي زيادة علاقة.
وبحسب الشاعر والكاتب الصحفي الكبير كامل الشناوى، فى كتابه "الذين أحبوا مى زيادة: وأوبريت جميلة"، قال إنه لكى يعرف العلاقة بين العقاد ومى رجع إلى صديق الأول للأزمة لأكثر من 30 عاما، والذى أكد للشناوى بأن حب مى عصف بقلبها وقلب العقاد، إلا أنه أكد أيضا أن العفة هى أساس العلاقة بينهم، وقال إن أقصى ما ناله العقاد من مى قبلة على جبينها أو قبلة على جبينه، وقد كانت مى ضنينة بقبلاتها على كل من أحبوها بحسب ما وصفها صديق "الشناوى".
مي زيادة وجبران خليل جبران
أحبت مي زيادة جبران خليل جبران المعروف برومانسيته الجارفة وأفكاره الجريئة وعباراته الرشيقة ونزعة الحرية القارة في حياته وفي فنه و أدبه، ولكنه كان مقيما بأمريكا واقتصرت علاقته بـ"مي" على الإعجاب والتقدير المتبادل يبعث إليها برسائله من أمريكا وترد عليه برسائلها إليه من مصر.
وظل قلبها مأخوذًا طوال حياتها بجبران خليل جبران وحده، رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة، ودامت المراسلات بينهما لعشرين عامًا منذ 1911 وحتى وفاة جبران في نيويورك عام 1931، واتخذت مراسلاتها صيغة غرامية عنيفة وهو الوحيد الذي بادلته حبًا بحب وإن كان حبًا روحيًا خالصًا وعفيفًا، ولم تتزوج على كثرة عشاقها.
دخول مي زيادة مستشفى الأمراض العقلية
وكانت وفاته عام 1931 صدمة نفسية وجرحا عميقا في روحها زادها تصميما على العزوبية وتفضيل العيش وحيدة بلا زوج تسكن إليه ويسكن إليها، كما عانت الكثير بعد وفاة والدها عام 1929 ووالدتها عام 1932، وقضت بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية وذلك بعد وفاة الشاعر جبران خليل جبران فأرسلها أصحابها إلى لبنان حيث يسكن ذووها فأساؤوا إليها وأدخلوها إلى «مستشفى الأمراض العقلية» مدة تسعة أشهر وحجروا عليها فاحتجّت الصحف اللبنانية وبعض الكتاب والصحفيون بعنف على السلوك السيء لأقاربها، فنقلت إلى مستشفى خاص في بيروت ثم خرجت إلى بيت مستأجر حتى عادت لها عافيتها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر ثم عادت إلى مصر.
مي زيادة وحيدة
عاشت صقيع الوحدة وبرودة هذا الفراغ الهائل الذي تركه لها من كانوا السند الحقيقي لها في الدنيا، وحاولت أن تسكب أحزانها على أوراقها وبين كتبها، فلم يشفها ذلك من آلام الفقد الرهيب لكل أحبابها دفعة واحدة، فسافرت عام 1932 إلى إنجلترا أملًا في أن تغيّر المكان والجو الذي تعيش فيه ربما يخفف قليلًا من آلامها، لكن حتى السفر لم يكن الدواء، فقد عادت إلى مصر ثم سافرت مرة ثانية إلى إيطاليا لتتابع محاضرات في «جامعة بروجيه» عن آثار اللغة الإيطالية، ثم عادت إلى مصر، وبعدها بقليل سافرت مرة أخرى إلى روما ثم عادت إلى مصر حيث استسلمت لأحزانها، ورفعت الراية البيضاء لتعلن أنها في حالة نفسية صعبة، وأنها في حاجة إلى من يقف جانبها ويسندها حتى تتماسك من جديد.
عرفت مي معروفة بحساسيتها الشديدة كونها امرأة من جهة، وفنانة شاعرة من جهة أخرى، وهذه الحساسية المضاعفة هدت عافيتها الجسدية وتوازنها النفسي خاصة حين تعرضت لأزمات الحياة التي قصمت ظهرها بدءا بوفاة والديها ووفاة صديقها جبران خليل جبران ، وازدادت حالة المرض سوءا عليها عام 1936 وانتابها الاضطراب العقلي تبل منه قليلا ثم يعاودها.