تحظى قضية التغيرات المناخية باهتمام واسع يجعلها موضوع الساعة، خاصة في أوساط الشباب المثقفين والمعنيين بمشكلات البيئة وضرورة المحافظة عليها، كونها سبيل النجاة لجميع الأحياء على الكوكب، وبين حماسهم للقضية ولامبالاة يرونها لدى المسئولين، يلجأون إلى أساليب مبتكرة لإثارة انتباههم للتفاعل مع قضيتهم بجدية وإيجابية.
أمام عدسات بعض الحضور في المعرض الوطني بالعاصمة البريطانية لندن الجمعة الماضية، لطخت فتاتان لوحة عباد الشمس للرسام فان جوخ بمعلبات حساء الطماطم وتشبثتا بالجدار المعلق عليه اللوحة، في محاولة للفت أنظار الجميع إليهما والاستماع لمطابهما.
وتنتمي الفتاتان إلى إحدى مجموعات النشطاء ضد تغير المناخ تسمى "أوقفوا النفط"، وقد بررتا تصرفهما بكونه رد فعل على تقاعس الحكومة عن حل مشكلات ارتفاع تكاليف المعيشة وأزمة المناخ، وأوضحتا أنهما اختارتا توقيت تصرفهما الغريب للاحتجاج على منح تراخيص جديدة لشركات النفط والغاز، وعلى ارتفاع أسعار الوقود الذي يهدد بإغراق 8 ملايين أسرة في الفقر.
وقال تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، إن تصرفات النشطاء تفتقر إلى الاتساق ويشوبها التناقض في بعض الأحيان، فهم يحتجون على وفرة الطاقة في الدول التي تتسبب في كارثة مناخية قد تقود العالم إلى النهاية، ويحتجون أيضا على نقصه الحاد في دول أخرى بشكل ترتفع معه الأسعار وتكافح الأسر لتأمين متطلبات حياتها.
ويكمن التناقض في تفكير جماعات اليسار المهتمة بأزمة المناخ، التي تظن أن المجتمعات الغنية يمكن أن تقبل بحياة التقشف، وأن العقلية الرأسمالية يمكن أن تتراجع عن شراهتها لنمو الثروة، وأنه يمكن الرجوع إلى حياة البيئة البسيطة، وتظن كذلك إجراءات التقشف ستقع على عاتق الأغنياء الجشعين والشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، بينما سينعم الفقراء وطبقة العمال بحياة أفضل في مستقبل لا يقدس النمو الرأسمالي.
وفي خضم أزمة الطاقة الحالية لم يعد هذا التناقض مجرد طرح نظري، بل إن هناك شرخا واضحا في التصورات التقليدية عن المدينة الفاضلة، فبسبب الحرب الروسية الأوكرانية والصدمات التي أحدثتها، أصبحت هناك رؤية فعلية لعالم بلا نفط، بمعنى الوقف الفوري لتدفق الطاقة والتحول القسري إلى مصادر وقود بديلة، وأسعار نفط وغاز مرتفعة بشكل لم يخطر على بال أشد المتحمسين لفرض ضرائب مرتفعة على شركات الطاقة.
في النهاية، فرض الواقع نفسه ولكن بنبرة تفاؤل تبنتها السلطات الأوروبية والخبراء، معتبرين الأزمة الحالية فرصة جيدة للتحول للطاقة النظيفة بالسرعة التي تحتاجها القارة للتخلص من الوقود الأحفوري والانبعاثات الكربونية، وفي مفارقة طريفة نشرت النسخة الأوروبية من صحيفة "بوليتيكو" قائمة بالشخصيات الأكثر تأثيرًا في جهود تحول أوروبا للطاقة النظيفة، وجاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على رأس هذه القائمة، باعتبار أن حربه على أوكرانيا وأزمة الطاقة الناجمة عنها أجبرت القادة الاوروبيين على التفكير في بدائل للوقود الأحفوري.
لكن مطالبات منفذتي الهجوم غير اللائق على لوحة فان جوخ تعكس الواقع الجديد أكثر من خطابات المسئولين المتفائلة عن المستقبل، وتعد الخطوات الواسعة التي قطعها العالم في طريق إيجاد مصادر طاقة بديلة أحد أسباب تراجع خطر التغيرات المناخية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وحتى في أسوأ الظروف سيكون الخطر أقل من السابق.
ورغم ذلك لم يكن ممكنًا تحقيق هذا النجاح دون انخفاض مستوى المعيشة بفعل ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى درجة تصبح معها مصادر الطاقة النظيفة كالشمس والرياح أكثر جدوى، ورغم تأييد القادة الغربيين حركة "أوقفوا النفط"، من خلال تقييد أنشطة التنقيب عن الوقود الأحفوري ومد خطوط الأنابيب، لم ينجحوا في حماية شعوبهم من الصدمة التي تتعرض لها الآن.
وقد تكون النتيجة التي وصلنا إليها هي نموذج واضح على السبب الذي يجعل حركة "أوقفوا النفط" بمثابة رد فعل كارثي لأزمة الاحتباس الحراري، فلا يعقل أن تعاني أوروبا الفقر وتعود لاستخدام الحطب والفحم وتندلع فيها الاضطرابات الشعبية لمجرد أن تتحول إلى جنة خضراء بلا تلوث.
وبينما ارتفعت أسعار الطاقة في الدول الغنية كالمملكة المتحدة بشكل ملحوظ، ضربت هذه الأسعار الدول النامية بشدة، وتزداد هذه الظاهرة في أوقات ندرة الطاقة، وإذ تؤدي هذه الأزمة إلى اضطرابات في الغرب، فالاضطرابات ستكون أعنف في دول تعاني من الانقطاعات المتواصلة للتيار الكهربي مثل باكستان وبنجلاديش، اللتين تكافحان للسيطرة على أسعار الغاز المسال.
ويوضح هذا الواقع حجم التحدي الذي يواجهه العالم لتخفيف تبعات التغيرات المناخية، فالناشطون يرون أن الدول لا تتساوى في تحمل مخاطر ارتفاع الحرارة، وأن العالم النامي يواجه الجزء الأكبر من التهديدات البيئية، وتباطؤ النمو الاقتصادي الذي يسببه التقشف، فالدول الأفريقية والآسيوية تتحمل الكثير مقارنة بالاقتصادات المتقدمة فيما يتعلق بخطر الفيضانات والموجات الحارة.
وبالمقارنة تعاني أوروبا من الركود أكثر من الولايات المتحدة، وستكابد الكثير من الخسائر في عالم أفقر وأكثر برودة تهدد به الحرب الروسية على أوكرانيا، ولوقت طويل سيتعين على المسئولين غير المكترثين بأزمة المناخ تبرير هذا التقاعس وعدم بذل المزيد من الجهد للحد من هذا الخطر طويل الأمد.