الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

شاهدت لك

نهال علام
نهال علام

على مر السنين قرأت الكثير من الكتب، فهو شغف برائحة المسك والورق والخشب، طفت في عوالم مختلفة، التقيت شخوصا لم أشعر لوهلة أنها مختلقة، توالت الحكايات وتتالت الروايات وكلما زاد حكى الكلمات، رأيت من الدنيا ما تخفيه من عورات، كنت أظن أن بين ضفتي الكتاب تتلاطم أمواج الواقع والخيال، فتضفي على الحكايات طقوس العجائبية والغرائبية التي تعبث بما فهمناه من الحياة، ولكني علمت أن الخيال إن لم يكن الأجمل فهو على قسوته قد يكون أكثر رأفة من الواقع في الكثير من الأحيان.

بحب الحكايات وأستمتع بفوضى الأحداث وعدم توقع ما هو آت، لذا فالدراما وإن كانت صندوق الدنيا السحري، لكني أتأثر بالحروف لما تحمله من غموض وتتشح به من مكر وهدوء، فالقراءة هى باب الخيال، وتتيح لك عالماً يشبه توقعاتك من السحر والدلال والجلال، ولكن أحياناً تأخذك الدراما لعوالم تنافى العقل وتصبح الصورة أساس للنقل، ترى نوعاً آخر من الإبداع وهو إبداع الصمت، والاعتماد على إحساس الممثل ومشاعر المشاهد دون كلمات.

فالاحاسيس على اختلافها ليست إلا مرآة الإنسانية الصادقة، سلبية أو إيجابية كل مِنا يحمل نفحة من تلك المشاعر مهما بدت غير تقليدية.

هذا ما ظننته! أن كلنا نتشارك ذات المشاعر ولو اختلفت المقادير التي تحددها السمات الشخصية والخريطة الجينية، لكن لم يتضمن رأيي الاحتمالات المرضية وتأثيرها على السلوكيات البشرية حتى أسقط في يدي أحد المسلسلات على المنصات الأجنبية، والذي صدمني كونه قصة حقيقية فكم كنت أتمنى لو كان حكاية خيالية ففي ذلك بعض عزاء للبشرية!

"جيف دامر " شاب انطوائي يعانى من مشكلات انسحابية فهو بلا صداقات وليس له قصص حب بطلاتها فتيات، أمه مضطربة واجهت قلق الحمل والولادة بالكثير من المهدئات وصلت لسبع وعشرين قرص في اليوم الواحد وذلك في عام 1959 قبل أن يثبت العِلم تأثيرات تلك العقاقير على الأجنة، واكتشاف العلاج والأسباب لاكتئاب التغيرات الهرمونية التي تصاحب الحمل والولادة.

يحيا دامر بين أم غير مستقرة حاولت الانتحار أكثر من مرة، وأب يحبه كثيراً ولكنه يحاول الانغماس في العمل ليبتعد عن زوجته دائمة الصراخ، يستمر هذا الوضع حتى عامه الأخير في المدرسة وتتفاقم المشكلات ويتطلق الوالدان ويجد دامر نفسه وحيداً ويرصد ميله النفسي لأبناء جنسه، فيحاول إقامة علاقته الأولى ولكن ينتهي الأمر بالجريمة الأولى!

والتي لم تخضع لشكل الجريمة الاعتيادية، بل جريمة قتل يصحبها أعنف ما يمكن أن يتصوره عقل، بدءً من الاحتفاظ برأس الضحية وحتى طحن عظامه وطهى أعضائه، وذلك العنف برره القاتل بعد القبض عليه بخمسة عشر عام في أوائل تسعينيات القرن الماضى بأنه ذلك كان طريقته للتخلص من الجثة دون أن ينكشف أمره، والاحتفاظ ببعض الأجزاء وطهي البعض الآخر للشعور بالحميمية.

في عشر حلقات استعرضت الأحداث رحلة دامر التي استغرقت 15 عاما من الدموية وقرابة 25 ضحية كلهم نالوا ذات القدر من الوحشية، وهنا تبرز أنياب العنصرية!

ولا تتسرع في الحكم! فدامر لم يكن عنصرياً بالفطرة، بل القت به الظروف المكانية في براثن تلك التهمة، فمعظم ضحاياه هم الملونين أو المهاجرين، وذلك بسبب أنه اختار حي معروف عنه أنه زهيد الإيجار ولا يشهد دوريات مرورية أو تواجد أمنى، فلا يضير الأمر إذا قضى هؤلاء المقتحمين على بعضهم البعض فلن تخسر الحياة الأمريكية الكثير بخسارتهم، بل ربما كلما قلت أعداد الملونين تسبب ذلك بالسعادة للبيض وإن كانوا أيضاً مواطنين غير أصليين.

ولتتعاظم أركان الجريمة سواء بأفعال دامر الوحشية أو تصرفات الشرطة الأميريكية العنصرية، تقدم جيران دامر ببلاغات للشرطة عشرات المرات، بسبب أصوات الاستغاثة المرعبة أو رائحة الموت المفجعة التى تنبعث من مسكنه، ولكن لم تكن الشرطة تبالي فالفتى الأبيض حر وإن أشتبه في أنه يضُر، ولكن الله لا يرضى بالظلم، لذا استطاع آخر ضحاياه الهرب قبل أن يعبث المخدر برأسه ونجا بعمره، ذهب مذعوراً يستنجد بالشرطة التي ما صدقته لأنه إفريقي الأصل إلا بسبب الأساور الحديدية في يديه، التى كبله دامر بها.

حُكم على دامر بالسجن لمئات السنين، حيث أن ولاية ميلواكى لا تطبق الحكم بالإعدام، وبداخل السجن كان على موعد جديد مع الصدفة التي ترسم القدر، حيث صدر حكم بالإعدام في ولاية اخرى على قاتل متسلسل يتشابه فكره وأسلوبه معه، ولكن أثناء مشاهدة دامر لحديث تلفزيوني للقاتل، لفت انتباهه حديثه عن عفو الله ورحمته، وأنه لا يخشى الموت حيث أمضى سنوات طويلة في السجن يتضرع لله وهو على يقين أنه سيغفر له ويسامحه، لذا ذهب دامر لكاهن السجن وسأله عن العفو الألهى، وهل باب التوبة مفتوح لأمثالهم، الذين لم يمتهنوا غير وظيفة السفح الإنساني!

وجاءت إجابة الكاهن عظيمة عن الصفح والرحمة، تحدث عن الثواب والعقاب والتوبة الحقة، فما كان من دامر إلا أن طلب الغفران وأن يتعمد كُنسياً ليغتسل من الأحزان، وبدأ فصل جديد في حياة دامر أثار حنق أحد الملونين المتشددين الذي رفض أن يتعدى دامر على جلال الله ويطلب الصفح!

وبذات التفكير التكفيري لم يتقبل هذا المؤمن الغيور محاولات عودة دامر من طريق الفجور، فسبق غروره عقله ولقى دامر حتفه على يديه، بعد أن مثل بجثته وفقع عينيه ولم يمانع هذا الشخص الذي وكل نفسه متحدثاً باسم الله أن يرتكب جريمة قتل أخرى تمهد الطريق للخلاص من دامر.

والعجيب في الأمر أن تلك كانت محاولة القتل الثانية التي يتعرض لها في السجن، فالمحاولة الأولى كانت أيضاً عندما غضب شخص آخر لوجود هذا المدنس داخل الكنيسة فحاول ذبحه قرباناً لله!

كان لافتاً رد فعل المواطنين تجاه تلك الجرائم، كعادة البشرية كانت الغالبية العظمى غاضبة من ذلك الشاب، وحانقة على الجهاز الشرطي الذي تسبب تراخيه وعنصريته في ازهاق الكثير من الأرواح. 
ولكن هناك تلك الشرذمة المشوهة نفسيا والموجودة في ارجاء الإنسانية وللأسف أثبتت حوادث القتل باسم الحب التي شهدناها في الفترة الأخيرة أننا نتعامل معهم يومياً.

حفنة من الموتورين، وبعض المرضى الاجتماعيين، شكلوا مجموعة تتعاطف مع القاتل الذي يمثل لها بطلاً وردياً، إقدامه على الخطأ بمثابة عملاً إسطورياً، اتيانه المستحيل يمحو عنهم ذنب عدم تحقيقهم الممكن، قوته الزائفة تواري ضعفهم الحقيقي، جنون فعله يساوى عبث ردود أفعالهم.

فوجئ دامر في محبسه بخطابات من المعجبين وأموال من الداعمين، وعندما قام والده بتأليف كتاب يعرض فيه تجربته مع ولده لعله يكون بمثابة صرخة تنبيه لخطر ينمو ويترعرع داخل أحضان البيت، انهالت عليه العروض المليونية والعروض لتحويل القصة لأعمال درامية، حتى أن أغراضه البالية بيعت في مزاد علني وحققت أرقاماً غير مسبوقة.

تدخل القضاء بناء على شكوى أهالي الضحايا وأصدر حكماً بأن تتوزع عوائد تلك النشاطات على أهالي الضحايا، ولكن ذلك لا يمسح الصدمة من وجود تلك الميول المنحرفة بين البشر، وإن اختلف الزمان والمكان والمبرر.

جذبتني الأحداث منذ اللحظة الأولى التي قرأت فيها أن العمل مأخوذ عن قصة واقعية، وبالرغم ما تخللها من مشاهد مقززة وأفكار مدنسة، إلا إن عقلي لم يقاوم سوئها، لكن ما لم استطع تجاوزه نقطتين، أولها وجود مريدين لسفاح مضطرب جنسياً ونفسياً،  وثانيها قتل دامر عندما اختار العودة للطريق القويم، والتعلق في الدين كطوق نجاة من مطرقة الذنوب وثقل الضمير، ولكنها الحياة التى لا زالت تخفي الكثير والكثير، وما على الدراما والقصص إلا البلاغ المبين، بما كان ومالم يكن لعل تلك الصرخات تجد طريقها للقلب فيستنير!