على النقيض من بلدان الغرب، لا يعرف العالم أو يسمع سوى القليل عن الداخل الروسي، ومنذ نشوب الحرب الروسية الأوكرانية كان هناك صمت مطبق من طبقة التكنوقراط الروس المتعلمين في الغرب والمسؤولين عن إدارة الاقتصاد الروسي.
ووفقًا لمعهد كارنيجي للسلام العالمي، امتنعت شخصيات روسية بارزة مثل وزير المالية السابق أليكسي كودرين، والرئيس التنفيذي لمصرف سبيربنك الأكبر في روسيا جيرمان جريف، ورئيسة البنك المركزي الروسي إلفيرا نابيولينا، امتنعوا عن توجيه أي انتقادات للحرب، في إشارة ضمنية إلى دعمهم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأوضح المعهد أن هؤلاء التكنوقراط المحترفين يوجهون الاقتصاد الروسي بنجاح لافت في هذه المرحلة الحرجة والحساسة من تاريخ البلاد، بينما يتجنبون الانخراط في معترك السياسة أو التعليقات ذات الطابع السياسي، ونتيجة لجهودهم لا يزال النظام المالي الروسي مستقرًا نسبيًا على الرغم من العقوبات المتزايدة، بينما ينخفض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد تدريجياً بدلاً من الانهيار الذي كان متوقعًا في البداية، ويبدو أن بإمكانهم معالجة الأزمة التي سببها الغزو الروسي لأوكرانيا حتى مع تجاهل الحرب كقضية سياسية.
ويُعد التكنوقراط المحترفون في الإدارة الرئاسية والهيئات الحكومية والوزارات الذين يقاتلون لإنقاذ الاقتصاد الروسي هم النخبة الجديدة في البلاد، فهم يجيدون اللغات الأجنبية وعلى دراية جيدة بأساليب الإدارة الحديثة، ومع أن عددا قليلا منهم تركوا مناصبهم وسافروا إلى الخارج بعد اندلاع الحرب، استمرت الغالبية العظمى في أداء وظائفها، بعد أن قبلت القواعد الجديدة للعبة.
وأشار معهد كارنيجي إلى أن قاعدة توظيف المواهب الشابة التي تجيد اللغة الإنجليزية وتتمتع بمهارات عملية جيدة بدلاً من الموالين التقليديين للحزب الحاكم أو ضباط الأمن منذ فترة طويلة مع جيرمان جريف، عندما تم تعيينه وزيراً للتنمية الاقتصادية في عام 2000، ثم واصل جريف ثورته الإدارية الشهيرة بعد انتقاله لرئاسة سبيربنك المملوك للدولة، والقصة ذاتها تكررت مع رئيسة البنك المركزي إلفيرا نابيولينا، ونائب رئيس الوزراء السابق أركادي دفوركوفيتش، ورئيسة جهاز حماية حقوق المستهلك آنا بوبوفا، وشخصيات حكومية أخرى.
وتشيع بكثافة الممارسات غير الرسمية في إدارة الدولة الروسية، فرجال الأعمال القريبون من الكرملين يتجاوزون الإجراءات البيروقراطية للحصول على الموافقة الرئاسية مباشرة على مشروعاتهم الطموحة، ويمكن أن يكون لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي كلمة نافذة في القضايا الاقتصادية.
ويتعلم التكنوقراط الشباب الروس هذه الممارسات غير الرسمية من زملائهم الكبار بمجرد أن يبدأوا العمل ويصبحون جزءًا من المجموعة الاجتماعية لموظفي الخدمة المدنية، وفي هذه المرحلة يصبحون أيضًا غرباء عن جميع الفئات الاجتماعية الأخرى، وتصبح تلك لحظة أساسية في تشكيل هويتهم، فالسمة الرئيسية المميزة للمجموعات المنظمة من الغرباء هي الشعور بأنهم منفصلون عن بقية فئات المجتمع وأنهم جميعًا في نفس القارب.
تبدأ عملية تطبيع التكنوقراط الجدد مع الممارسات غير الرسمية بالاقتراب منها واكتساب الخبرة في إدارتها، ثم تبريرها بالقول إن المسئولون في مواقع أخرى يفعلون أشياء أسوأ بكثير. وتأتي بعد ذلك المرحلة التالية، وهي المشاركة فعليًا في هذه الممارسات غير الرسمية، جزئيًا على الأقل، وفي المرحلة الثالثة يُنظر إلى طريقة التفكير تلك باعتبارها الطريقة الصحيحة، لأن الأعضاء الآخرين في جهاز الخدمة المدنية الحكومية يفكرون بنفس الطريقة.
وهكذا يتراجع المعيار الأخلاقي للقرارات إلى ذيل قائمة الاهتمامات، ويتقدم معيار الكفاءة في التنفيذ، سواء بالطرق الرسمية أم غير الرسمية، على ما عداه، وربما يفسر ذلك إحجام طبقة التكنوقراط الروس عن التعليق على الحرب في أوكرانيا أو اتخاذ موقف مسيس منها، فما يهم هنا ليس ما إذا كانت الحرب مشروعة أو أخلاقية، وإنما مدى الكفاءة في تنفيذ العمليات العسكرية.