لا يخفى على المتابع للأوضاع على الساحة الدولية في الآونة الأخيرة، وخاصة في أوروبا، حالة الارتباك والترقب التي تعيشها شعوب القارة العجوز، على خلفية اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا وتبعاتها الاقتصادية.
وفي وقت لم يكد يتعافى العالم فيه من تداعيات الركود الاقتصادي بسبب جائحة كورونا، فاقم الصراع في أوكرانيا معاناته مجددا، وتظهر المفارقة جلية بين ما آلت إليه أحوال الأوروبيين الذين اعتادوا الرفاهية من مكابدة الأعباء الاقتصادية، وبين الانتعاش النسبي للاقتصاد الروسي رغم العقوبات.
ليس لدى الشعب الروسي حاليا الكثير ليفتخر به، فيلجأ رواد مواقع التواصل الاجتماعي منهم إلى نشر أفلام موجهة للجمهور الأوروبي، تظهر مواقد البنزين وهي تعمل بكامل طاقتها لعدة أيام حتى نفاده، وما سيتكلف الكثير من اليوروات في برلين أو باريس هذا الشتاء، سيتكلف القليل من الروبلات في موسكو، ومن دواعي السخرية التي تعكس الواقع المرير، أن الحرب الاقتصادية بين روسيا والغرب بدأت جذوتها في الانطفاء، فبينما تراوح أوروبا مكانها عند نقطة الركود، يتحسن الوضع المالي الروسي في المقابل.
تلحق العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، بعد غزوها لأوكرانيا في فبراير الماضي، الضرر بالوضع المالي الروسي على المدى الطويل، فقد حرمت تاسع أقوى نظام مالي في العالم، من التعامل خارج حدوده، وخفضت فرص التنمية إلى النصف، وتقلص إنتاج النفط والغاز، اللذين يعدان شريان الحياة للنظام المالي الروسي، بنسبة 3% أقل مما كان عليه قبل الحرب، وسيواصل الهبوط مع ظهور تأثير الحظر الأوروبي بحلول نهاية العام، ففي الستة أشهر الأولى من الحرب، هرب ما بين 250 ألف و500 ألف روسي من بلادهم، كثير منهم متعلمون ورواتبهم مرتفعة، بحسب تقديرات بعض المراقبين.
وحسب ما ذكر تقرير صادر عن مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية، فإن قرار بوتين إعلان التعبئة الجزئية يشكل عبئا إضافيا على الوضع المالي، فقد أدى إلى انتشار حالة من الذعر المصرفي بين المودعين الروس، بسبب مخاوف من عدم إيجاد مخرج للأزمة، ووفقا لبعض التقديرات، فقد سحب الروس ما يعادل 14 مليار دولار من ودائعهم في سبتمبر الماضي بعد إعلان التعبئة الجزئية، وهو ثلث ما تم سحبه في عملية مماثلة في فبراير بعد نشوب الحرب، وغادر 300 ألف روسي البلاد، مما أدى إلى نقص إضافي في قوة العمل، وهو ما فاقم الآثار السلبية للتضخم، ورغم أن المؤشرات تظهر انخفاض التضخم، إلا أن الوضع بالنسبة للشركات كثيفة العمالة يزداد سوءًا.
ورغم هذه الصعوبات، فإن حالة الركود في روسيا تقترب من نهايتها، فكثير من الأفراد يتشككون في المعلومات الرسمية عن الناتج الإجمالي المحلي، ولكن لديهم خيارات للتكيف من خلال تنوع مصادر الدخل، وتكشف مؤسسة جولدمان ساكس المالية الأمريكية أن أداء الاقتصاد الروسي يتسم بالحيوية أكثر من اقتصادات دول أوروبية كبرى.
ويظهر مقياس الإنفاق الذي يستخدمه مصرف سبيربانك الروسي، حدوث تذبذب في الأداء الاقتصادي بسبب قرار التعبئة، لكنه عاد للارتفاع مرة أخرى، كما ارتفع إنتاج السيارات، الذي كان قد تهاوى إلى الصفر منذ عدة أشهر، وهو ما يعني أن المنتجين الروس تمكنوا من فتح أسواق جديدة بعيدا عن الغرب، بالإضافة إلى انتعاش واردات روسيا بشكل عام.
وتشير التوقعات التي أعلنت في 11 أكتوبر الحالي، إلى اتساع آفاق الاقتصاد الروسي خلال هذا العام، فقد كان من المتوقع في أبريل الماضي أن يهبط الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 8.5%، ويُعتقد أنه سيهبط الآن بنسبة 3.4%، وقد تبدو هذه التقديرات محبطة، لكن يمكن السيطرة عليها، وقد أصدرت الحكومة الروسية في سبتمبر الماضي، مسودة استرشادية لمعدل الأسعار خلال الفترة من 2023 حتى 2025.
وقالت إلينا ريباكوفا من معهد التمويل الدولي، إن معدل الأسعار سيرتفع بسبب زيادة الإنفاق بعد الحرب خلال السنوات القادمة، خاصة فيما يتعلق بالأمن الداخلي، ولتجنب الانهيار المالي، سيتمسك بوتين بمواقفه على الصعيدين الداخلي والخارجي.