ارتفع الدولار الأمريكي بشكل كبير منذ بداية هذا العام واستمر مؤشر في التعزيز إلى أن وصل إلى أعلى قيمة له منذ 20 عامًا، في الوقت نفسه، انخفضت العملات الأخري بشكل عام، وأظهرت أسعار صرف اليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني واليوان مقابل الدولار ضعفًا، خاصة بعد أن انخفض اليورو إلى ما دون التكافؤ مقابل الدولار، بدا الجنيه الإسترليني وكأنه غير قادر على الصمود.
وواصل مؤشر الدولار الأمريكي ارتفاعه محدثًا أعلى قيمة له باستمرار منذ عام 2002، بينما استمر سعر صرف اليورو مقابل الدولار في الانخفاض وبلغ المستوى 1.0 في 12 يوليو لأول مرة منذ ديسمبر 2002، ليصبح 1 يورو يساوي 1 دولار، ومنذ ذلك الحين، تذبذب سعر صرف اليورو مقابل الدولار الأمريكي وكسر مستوي التعادل ووصل إلى أدني نقطة في يوم 28 سبتمبر عند 0.9541 دولار.
عانى الجنيه الاسترليني من وضع مماثل، بعد دخول شهر أغسطس أصبح انخفاض الجنيه أمام الدولار الأمريكي أكثر وأكثر حدة، وفي أقل من شهرين كان أكبر انخفاض يقترب من 2000 نقطة أساس، ووصل إلى أدنى مستوى له على الإطلاق عند 1.0349 في 26 سبتمبر، في 28 سبتمبر كان الجنيه لا يزال يحوم حول أدنى مستوى له عند 1.06 مقابل الدولار، على مدار أكثر من 200 عام من تاريخ التداول لم يكن الجنيه أبدًا أرخص من الدولار، يتوقع خبراء السوق أن يصل الجنيه إلى مستوى التكافؤ مقابل الدولار بنهاية نوفمبر وسيصل إلى 0.975 دولار مع نهاية العام.
منذ منتصف أغسطس انخفض الجنيه الإسترليني مقابل الدولار بمعدل أسرع من اليورو، حيث تجاوز معدل النمو السنوي لمؤشر أسعار المستهلكين في المملكة المتحدة لشهر يوليو رقمين، وفي 26 أغسطس أعلنت المملكة المتحدة أنها سترفع سقف أسعار الطاقة بنسبة 80% اعتبارًا من الأول من أكتوبر، وقد يستمر ارتفاع أسعار الطاقة في المملكة المتحدة بشكل حاد في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، رفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة باستمرار منذ ديسمبر من العام الماضي، وبهذا يكون البنك المركزي البريطاني قد رفع أسعار الفائدة سبع مرات حتى الآن لتصل سعر الفائدة القياسي إلى 2.25% وهو أعلى مستوى منذ عام 2008، وبرغم ذلك فإن بنك انجلترا أحرز تقدمًا محدودًا للغاية في كبح جماح التضخم، وهو ما لا يكفي لتهدئة مخاوف السوق بشأن "الركود التضخمي".
ومن جهة أخري، يعتقد المحللون أن هناك ثلاثة عوامل محفزة وراء الانخفاض الأخير في قيمة اليورو: أولاً، تدهور أزمة الطاقة، ثانياً، الزيادة القسرية في تمويل الاتحاد الأوروبي، وثالثاً، التغيرات السياسية في المملكة المتحدة وانخفاض قيمة الجنيه.
ما يختلف عن الماضي هو أن هذه الجولة من انخفاض قيمة اليورو من الصعب أن يعزز طفرة الصادرات، وبدلاً من ذلك، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف القوة الشرائية لليورو وتفاقم الضغوط التضخمية، الأمر الذي سيضر اقتصاد منطقة اليورو أكثر مما ينفعه.
وبالنظر إلى أن الركود الاقتصادي في منطقة اليورو يقترب تدريجياً وأن خطر الديون الأوروبية يصعب القضاء عليه، فإن مصداقية اليورو على المدى المتوسط والطويل تواجه تحديات، حيث أن "أزمة اليورو" قد لا تكون قادرة على التحول في الوقت الحالي لكنها ستزداد سوءًا.
منذ بداية هذا العام وبسبب عوامل مثل الجغرافيا السياسية ورفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة انخفض الجنيه الإسترليني تدريجيًأ إلى أن وصل لأدني مستوياته على الإطلاق، وسط مخاوف متزايدة بتكرار سيناريو اليورو والهبوط إلى ما دون مستوي التكافؤ مع الدولار الأمريكي.
يقول المحللون إن الزيادات الحادة في أسعار الفائدة الفيدرالية جعلت مؤشر الدولار الأمريكي يواصل التعزيز، والذي بدوره سينقل الضغط التضخمي إلى الكثيرين من بينها المملكة المتحدة، وقد يواجه الجنيه ضغوط إهلاك طويلة الأجل.
وأشار محلل الصرف الأجنبي في دويتشه بنك "شرياس جوبال" إلى أن عجز الحساب الجاري البريطاني وصل إلى مستوى مرتفع جديد، والآن أصبح من الضروري خفض توقعات التضخم وتحسين ثقة المستثمرين لجذب تدفق كبير للأموال لدعم الجنيه.
لكن الوضع الحالي هو عكس ذلك، وفقًا للبيانات الصادرة عن مكتب الإحصاءات الوطنية، ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين في المملكة المتحدة في يوليو بنسبة 10.1% على أساس سنوي، ويتوقع سيتي بنك أن التضخم في المملكة المتحدة سيبلغ ذروته عند 18% في أوائل عام 2023، وقال محافظ بنك إنجلترا مؤخرًا إن توقعات التضخم في بريطانيا المرتفعة بشكل حاد على المدى القصير "ليست مفاجئة".
في هذا الصدد، حلل البعض بأن التضخم المرتفع هو أحد الأسباب المهمة لخفض قيمة الجنيه، حيث يختلف نمط التضخم في المملكة المتحدة عن مثيله في الولايات المتحدة، فبريطانيا تواجه المزيد من الصدمات في جانب العرض، وتتأثر بشكل أكبر بارتفاع أسعار السلع الأساسية الناجمة عن الصراع بين روسيا وأوكرانيا.
بالإضافة إلى ذلك، تواجه المملكة المتحدة تضخمًا مستوردًا إلى حد ما، حيث دفعت الزيادات الحادة لأسعار الفائدة للبنك الاحتياطي الفيدرالي مؤشر الدولار الأمريكي للارتفاع تدريجيًا، وعادت الأموال العالمية إلى السوق المالية الأمريكية والتي بدورها نقلت الضغوط التضخمية إلى العديد من الدول، بما في ذلك المملكة المتحدة، وقد رفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة بمقدار 165 نقطة أساس منذ ديسمبر في محاولة لكبح التضخم، لكنه لا يزال أبطأ من البنك الاحتياطي الفيدرالي، مما يلقي بثقله على الجنيه.
ويعتقد أحد المحللين أن بيئة أسعار الفائدة المرتفعة مطلوبة إذا أرادت بريطانيا جذب ما يكفي من رأس المال لدعم الجنيه، لكن بنك إنجلترا متردد في رفع أسعار الفائدة في الوقت الحالي بسبب مخاوف الركود.
وجدت أبحاث بنك HSBC أن توقعات سياسة بنك إنجلترا تؤثر بشكل متزايد على الجنيه الإسترليني، يعتقد الخبير الاستراتيجي في HSBC "دومينيك بانينغ" أن الجنيه الإسترليني يخضع لمخاطر متعددة، في الماضي كان سوق الأسهم عادة المحرك الرئيسي لتغيرات أسعار الصرف، ولكن أسعار الفائدة الآن تفوق بوضوح تفضيلات المستثمرين، وقال بانينغ: إن مسار رفع أسعار الفائدة الذي يتبعه بنك إنجلترا مهم للغاية، لكن وتيرة الرفع بطيئة للغاية للسيطرة على التضخم، إنها تؤدي إلى انخفاض الجنيه بالكامل.
مع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء في أوروبا، انخفض سعر صرف اليورو مقابل الدولار الأمريكي إلى ما دون التكافؤ، وقد أشار البعض إلى أن مخاوف السوق بشأن نقص الطاقة وارتفاع التضخم في منطقة اليورو قد يبقي العملة دون مستوى التكافؤ.
كما أدت المخاوف بشأن نمو الاقتصاد الأوروبي التي أثارتها أزمة الطاقة في أوروبا إلى إضعاف اليورو، خاصة بعد توقف إمدادات الغاز الروسية، يؤدي هذا إلى تفاقم وضع إمدادات الطاقة الضيق بالفعل وعدم اليقين في ألمانيا ومنطقة اليورو، ويشعر المستثمرون في السوق بالقلق من أن الأسوأ لم يأتي بعد، خاصة بعد أن تعرضت عدة مناطق في أوروبا إلى الجفاف في الأشهر الأخيرة مما يساهم في تفاقم أزمة الطاقة الأوروبية.
يعتقد الخبير الاقتصادي في كومرتس بنك "رالف سوفين" أن استمرار الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة واختناقات إمدادات المواد الخام وضعف الاقتصاد العالمي قد أضعف توقعات منطقة اليورو، كما أن "صدمة الأسعار" تتسبب في فقدان نسبة كبيرة من السكان للرخاء بشكل دائم، كما يشعر الخبير الاقتصادي بالقلق إزاء الحلقة المفرغة التي يثبط فيها التضخم المرتفع الاستهلاك وينخفض الاستثمار التجاري واستمرار التدهور الاقتصادي على المدى المتوسط.
أظهر التقرير الشهري للبنك المركزي الألماني أن الاقتصاد الألماني من المرجح أن يسقط في حالة ركود، وأن معدل التضخم سيستمر في الارتفاع والذي قد يصل إلى أكثر من 10% هذا الخريف، وقال التقرير "إن احتمال حدوث تراجع في الناتج الاقتصادي في ألمانيا هذا الشتاء زاد بشكل كبير"، "حيث أن عدم اليقين الكبير في إمدادات الغاز الطبيعي والارتفاع الشديد في الأسعار يمكن أن يلقي بثقله على الأسر والشركات".