منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، ومن بين جميع دول حلف الناتو، حافظت تركيا على علاقات جيدة مع روسيا، فلم تفرض عليها عقوبات أو تلغي رحلات الطيران بين البلدين، بل استمرت في التنسيق معها بشان مختلف القضايا، مما أثار التساؤلات في أوكرانيا عن أنقرة باعتبارها شريكًا مهمًا.
حدود الشراكة بين تركيا وأوكرانيا
ووفقًا لمركز كارنيجي للسلام العالمي، فخلال السنوات الخمس التي سبقت الحرب، أصبحت العلاقات التركية الأوكرانية أقوى من أي وقت مضى، ورأت أنقرة أن شراكتها مع كييف تساهم في تحقيق هدف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بجعل تركيا قوة إقليمية مؤثرة، وفرصة لبناء الروابط السياسية والاقتصادية مع أوكرانيا، لتعزيز مكانتها في حوض البحر الأسود.
وبالنسبة لأوكرانيا كانت تركيا أحد الشركاء الذين أبدوا استعدادًا حقيقيًا للتعاون معها في مجال التصنيع العسكري، وهي خطوة في غاية الأهمية لأوكرانيا منذ عام 2014، ففي أعقاب ضم روسيا شبه جزيرة القرم وجزء من إقليم دونباس خلال العام المذكور، بدأت كييف بتحديث جيشها للمرة الأولى منذ استقلالها عام 1991، واعتبرت تركيا شريكًا حيويًا مستعدًا لبيع الطائرات المسيرة، والمساعدة في بناء سفن حربية متطورة دخلت الخدمة في الثاني من أكتوبر الجاري، وبدت أنقرة راغبة في تعزيز التعاون العسكري مع كييف، حيث عرضت تأمين محركات الطائرات المسيرة.
ومن الجدير بالذكر أن تركيا وثقت التعاون مع تتار، القرم وهم إحدى المجموعات العرقية التركية، في تحالف طبيعي بجانب أوكرانيا في مواجهة ضم روسيا للقرم، وعلى الرغم من عدم انخراط أنقرة في توقيع العقوبات على روسيا منذ عام 2014، إلا أنها ساعدت كييف في إبقاء قضية القرم على الأجندة الدولية، باقتراح مبادرة القرم الدبلوماسية، وساهمت في جهود إطلاق سراح المعتقلين السياسيين من تتار القرم.
ولكن حتى الآن لا ينظر أحد الطرفين إلى الآخر باعتباره شريكا استراتيجيا أو حليفا سياسيا وعسكريا على المدى الطويل، ولا تزال العلاقات بينهما تبنى على أساس التعاون الانتقائي، كالتعاون في مجال تصنيع الطائرات المسيرة القتالية، وتأسيس البنية التحتية للمواصلات، وتجارة الحبوب، والتكاتف بشأن قضية القرم، وقضايا أمن الملاحة في البحر الأسود.
روسيا فرصة أفضل بالنسبة لتركيا
وحسبما ذكر تقرير صادر عن صحيفة الجارديان البريطانية، فإن تركيا تنظر إلى روسيا كشريك أمني واقتصادي أكثر أهمية من أوكرانيا، وفي سبيل تحقيق مصالحها القومية، تجاهلت تركيا مواقف كييف وحلفائها الغربيين على السواء، وظهر ذلك في مشاركتها في إنشاء مشروع خط أنابيب "تورك ستريم" المماثل لدور أوكرانيا في نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وشراء منظومة صواريخ إس400 من روسيا، رغم انتقادات الولايات المتحدة والناتو. وهي تحاول الآن استغلال غزو روسيا لأوكرانيا لتعظيم مكانتها الإقليمية والدولية من خلال لعب دور الوساطة في المنطقة، والمطالبة بدور أكبر كوسيط بين روسيا والغرب في وقت تتوتر فيه العلاقات بينهما.
ويمكن القول إن توقيع اتفاقية شحن الحبوب في إسطنبول في يوليو الماضي تعد خطوة غير مسبوقة، فقد خططت روسيا لعقد اتفاق محدود في مقابل تخفيف العقوبات، ولم تعترض على لعب أردوغان دور الوسيط، ولم تعترض أوكرانيا أيضا على ذلك.
ولكن على الرغم من ذلك، أدت الحرب إلى اهتزاز صورة أنقرة لدى أوكرانيا، التي كانت تعتبرها حليفا استراتيجيا وصديقا مقربا وشريكا موثوقا به، وشعر الأوكرانيون بخيبة أمل لعدم انضمام تركيا إلى الدول التي فرضت عقوبات على روسيا على خلفية غزوها لأوكرانيا، وإحباطها محاولة انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، وانخراطها في محادثات مع روسيا بشأن التبادل التجاري بالعملات المحلية.
تركيا وأوكرانيا.. مسافة أبعد من المتوقع
وظهر الغضب من تركيا أيضا على المستوى السياسي، فقد اتهم السفير الأوكراني في تركيا أنقرة بالتواطؤ مع روسيا لسرقة الحبوب الأوكرانية، واستدعت وزارة الخارجية الأوكرانية السفير التركي مرتين للاحتجاج لديه على الإفراج عن سفينة روسية تحمل حبوبا أوكرانية كانت محتجزة، وعلى معلومات تقول إنه يجري نقل منظومة صواريخ إس-300 الروسية من سوريا إلى أوكرانيا عبر الأراضي التركية، وقد كان من الصعب تخيل مثل هذه المواجهات سابقا.
ونتيجة لذلك لم تعد أوكرانيا تنظر إلى علاقتها مع تركيا كجزء من علاقتها بالغرب، وهو ما ساعد أردوغان على تحقيق قدر من الاستقلالية في العلاقات الدولية، وتقديم نفسه باعتباره وسيطًا بين الغرب والعالم غير الغربي، وهو هدف طالما تطلع إليه، ولوقت طويل لم تلاحظ أوكرانيا، أو بالأحرى تجاهلت، مدى تركيبية وتعقيد الموقف التركي، فتركيا في النهاية عضو في حلف الناتو، وربما أوهم ذلك كييف أن أنقرة ستنحاز إليها بدون تردد، ولكن الحرب أجبرت كييف الآن على النظر بمزيد من الواقعية إلى السياسة الخارجية التركية.
إلا أن ذلك لا يعني انقطاعا في العلاقات بين البلدين، فسوف يظلا شريكين، لكنها ستكون شراكة انتقائية وعملية أكثر من أي وقت مضى، وسيظل الشعب والحكومة الأوكرانيان يتساءلان عن مواقف تركيا ومدى إمكانية الوثوق بها كحليف، ومما يغذي هذا الاتجاه اعتماد كييف المتزايد على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، خاصة إذا استمرت تركيا في سياسة الابتعاد عن الغرب، وستحد الشراكة التركية الروسية من تطور العلاقات التركية الأوكرانية، ورغم ذلك ستظل تركيا وسيطا محتملًا بين المثلث الأوكراني الروسي الغربي.