أصبحت روسيا منذ أشهر وبعد فترة قصيرة من نشوب الحرب الروسية الأوكرانية الدولة الأكثر خضوعا للعقوبات في التاريخ، إذ فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتبعهما في ذلك دول أخرى تدور في الفلك الغربي، موجات متتالية من العقوبات استهدفت بشكل أساسي مصدر الدخل الروسي شديد الأهمية والحيوية، أي صناعة النفط والغاز، فيما تنهال المساعدات الغربية المالية والعسكرية على أوكرانيا في موجات متتابعة كذلك دون انقطاع.
ومع استمرار الحرب ودخولها شهرها الثامن دون أن تلوح تسوية سلام قريبة في الأفق، وإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة الجزئية لاحتياطي القوات المسلحة الروسية، وانخفاض مبيعات النفط والغاز الروسية إلى أوروبا (المشتري الرئيسي للطاقة الروسية)، وقطع المؤسسات المالية الروسية عن أنظمة التحويل العالمية، تثور تساؤلات مهمة عن كيفية تحمل ميزانية روسيا التكاليف الهائلة للحرب في أوكرانيا والعقوبات.
ميزانية الدفاع في روسيا
ووفقًا لمؤسسة جيمس تاون الأمريكية للدراسات، فمنذ شهر مايو الماضي، لم تكشف روسيا عن أي بيانات محدثة لميزانية الدفاع، ومع ذلك فالمعلوم أن الإنفاق العسكري الروسي في الفترة من يناير إلى أبريل الماضيين بلغ نحو 1.6 تريليون روبل (26.4 مليار دولار)، منهم نحو 500 مليون روبل (8.3 مليار دولار) أُنفقوا خلال شهري مارس وأبريل اللذين شهدا بداية الحرب.
وبمقارنة تلك المبالغ الضخمة مع الإنفاق العسكري الروسي خلال الأعوام الماضية، والذي بلغ في المتوسط 300 مليار روبل (5 مليارات دولار) شهريًا، ومع ملاحظة أن ميزانية الدفاع الروسية المعلنة في شهر مايو الماضي تبلغ 3.85 تريليون روبل (63.6 مليار دولار)، يُرجح أن الإنفاق العسكري الروسي الحقيقي سيبلغ بحلول نهاية العام الجاري نحو 5.5 تريليون روبل (90.9 مليار دولار).
وأوضحت مؤسسة جيمس تاون أن هذا التقدير يرتبط بحقيقتين أساسيتين: أولاهما أنه في يونيو الماضي خُصصت ميزانية إضافية للإنفاق على التصنيع العسكري تُقدر رسميًا بين 600 و700 مليار روبل (9.9 - 11.6 مليار دولار، والثانية أنه بعد مراجعة ميزانية الدفاع الروسية لعام 2022 في سبتمبر الماضي جرى تعديلها إلى 4.7 تريليون روبل (77.7 مليار دولار)، ومن المؤكد أن تلك المراجعة لن تكون الأخيرة.
الجدير بالذكر أيضًا أن ميزانية الدفاع الروسية لا تشمل ميزانية أجهزة الأمن ووكالات إنفاذ القانون، مثل الحرس الوطني الروسي وجهاز الأمن الفيدرالي، اللذين يشاركان في الحرب على أوكرانيا، وفي الأصل كانت ميزانية أجهزة الأمن ووكالات إنفاذ القانون لعام 2022 تبلغ 2.8 تريليون روبل (46.3 مليار دولار)، لكن هناك قرائن تشير إلى أن هذا المبلغ خضع للتعديل عدة مرات.
تكاليف الحرب الروسية الأوكرانية
من المتوقع بطبيعة الحال أن تزداد الأعباء على ميزانيتي الدفاع والأمن خلال العام المقبل، ويرصد مقترح ميزانية 2023 نحو 5 تريليونات روبل (82.6 مليار دولار) للدفاع ونحو 4.2 تريليون روبل (69.4 مليار دولار) للأمن وإنفاذ القانون.
ومع ذلك تلقي التعبئة المستمرة بظلال من الشك على هذه الميزانية المقترحة قبل اعتمادها، حيث لم يتم تحديد معايير واضحة لهذه لعملية التعبئة، وهي تجري بالفعل بطريقة فوضوية تمامًا، وبهذه الطريقة إذا استمرت الحرب خلال عام 2023، فمن المرجح أن يكون الإنفاق الدفاعي الروسي أعلى بكثير من 5 تريليونات روبل (82.6 مليار دولار).
وتعني زيادة ميزانية الدفاع والأمن قدرًا أقل من المرونة والكفاءة في الإنفاق الحكومي الروسي، ولذا اتخذت موسكو قرارًا بتقاسم عبء الإنفاق الدفاعي مع الميزانيات الإقليمية والمحلية، وعلى هذا النحو ستقوم الإدارات الإقليمية والمحلية الآن بشراء المعدات ذات الاستخدام المزدوج العسكري والمدني والطائرات بدون طيار والأنظمة الصاروخة الموجهة بالليزر، وغيرها من الإمدادات من خلال الطلبات المباشرة من وزارة الدفاع الروسية، مع عدم إغفال التعبئة المستمرة التي لا تواجه الفوضى فحسب، بل تواجه أيضًا عجزًا في المعدات الأساسية والأدوية وأنظمة الدعم القتالي للجنود الذين تم تجنيدهم حديثًا.
كيف تمول روسيا الزيادة في ميزانية الدفاع؟
وتكمن المشكلة هنا، كما يلاحظ موقع "أويل برايس" في أنه في الوقت الحالي لا توجد ميزانية إقليمية في روسيا مستقلة عن إرادة الكرملين، ومن ثم لا توجد ميزانية محلية واحدة مستقلة عن التوجيهات المركزية، وهذا يعني أن قرار الحكومة باستخدام الميزانيات الإقليمية والمحلية لتلبية احتياجات الدفاع قد خلق المزيد من الاختلالات وعدم الاستقرار داخل النظام السياسي والاقتصادي الروسي، في الوقت الذي تواجه فيه روسيا أزمة اقتصادية عميقة، وحظرًا دوليًا على إمدادات التكنولوجيا والمعدات الصناعية، وانخفاض صادراتها.
وعلى الرغم من حقيقة أن الأسباب الرئيسية للزيادة في الإنفاق الدفاعي الروسي كانت الخسائر الفادحة في القوة البشرية والأسلحة نتيجة الحرب في أوكرانيا، فمن المرجح أن تؤدي الزيادة المقترحة في ميزانية الدفاع إلى زيادة تكاليف تصنيع وشراء الأسلحة والمعدات العسكرية فقط، بدلاً من تحسين كمية وجودة من الإمدادات.
وتشير الحقائق إلى أنه فيما يتعلق بالإنفاق الدفاعي، فإن نهج الكرملين النموذجي لحل المشاكل من خلال إنفاق الأموال عليها لا يعد بنتائج إيجابية ومستدامة، وفضلًا عن ذلك فإن المزيد من الاختلالات في قطاع الدفاع الروسي أمر لا مفر منه، حتى لو تراجعت وتيرة الحرب في أوكرانيا خلال الأشهر المقبلة.