عرفته منذ 20 عاماً، فى عاصمة أوروبية شهيرة ، ترددت عليها تكراراً . هاجر مصر منذ الستينيات لتوقف عمله الحر . لم تستطع فطرته الريفية النقية تحمل ما تحولت إليه سلوكيات كثيرين من التواء وتعقيد، تناقضت مع منطقه العملى المباشر .
تزوج أوروبية حافظت مع ذريته على طابع سلوكى شرقى اصيل ومعاصر معاً ، لم يجد صعوبة فى الاندماج مع المجتمع الأوروبي المفتوح المتسامح . وحياة وعمل الاسرة قصة نجاح وترابط فى مجملها .
جمعنى به أصدقاء مشتركون وود كريم شغوف ومتزايد، كان يعبر عنه من خلال لقاءات ومعلومات ونصائح ، عارضاً وقته وخدماته ، وهو ما جعل تجربتى كسائح أكثر عمقاً فى فهم ذلك المجتمع وحياة أجيال المهاجرين واحوال مصر وقت طفولتى.
عكست كلماته عن دوافع الهجرة مرارة الحرمان من وطن أحبه ، غادره جسداً وسكنته روحه ، ولم تستطع نوعية المعيشة الرغدة وسهولة التعامل والخدمات وما حوله من جمال ونظام وهدوء ان تخلب لبه أو تحتل مشاعره أو تغير خلقه ، مازال هو المصرى الأصيل القادر بتراكمه الحضارى على استيعاب العالم فى داخله ، دون ان يفقد شيئاً من كيانه ، يعكس ما أثرى تاريخ مصر من حضارات فرعونية وقبطية ورومانية وإسلامية وعربية ومعاصرة ، دون ان يختل اتزانه من تناقضات يدعونها بين تلك المكونات .
هو ابن جيل برز فيه ادباء وفنانون وسياسيون ومفكرون وعلماء ، وصلوا بإبداعهم وتفانيهم وتمرسهم الى العالمية واحتلوا مناصب دولية ، استوعبوا التراث الإنساني دون ان يفقدوا محليتهم واصالتهم ، وأسهموا فى تحرير وبناء افريقيا والعالم العربى ، وجلبوا الى وطنهم احترام العالم ، وتقدير دول المهجر لمساهمات جالياته واندماجها السلمى بها .
لا تظهر كلمات عم على المحبة الناقدة معاً عن أسباب هجرته من مصر شيئاً لا يعرفه كثيرون منا ، بل هى أقل مما تكتبه صحف المعارضة دون شك ، ولكن ما يثيرنى هو شدة الاهتمام والانتماء . فرغم مرور 40 عاماً على هجرته وحياته المستقرة الآمنة فى أوروبا ، مازال وطنياً متحمساً مؤمناً بقدرات بنى جلدته لو تجمعت اراداتهم البناءة نحو مستقبل رشيد .
طالما شعرت ان انتقادات عم على المتكررة – بغض النظر عن مدى واقعيتها – تبرير لاستمراره فى اختيار حياة الهجرة دون ان يشارك أو يعانى فى بناء مصر التى يريدها وتدور بخلده . وهكذا فان حفاوته بى تسير فى نفس الاتجاه ، واحياناً تبدو وكأنها طلباً لبلسم عقلى ونفسى وروحى يهدئ تلك الجذوة لوطنه أو يطمئنه على مصيره ويقنعه بمستقبل واعد للشباب المندفع نحو الهجرة بأية ثمن .
يعيش عم على حالياً العقد الثامن من عمره ، وتأمينه الصحى والاجتماعى يكفل له معيشة آمنة ، ويعالج ما جلبه الزمن من تدهور لحالته الصحية . هذه المرة لم نلتق فى مقهى كالعادة ، بل زرته بالمنزل حيث يتحرك بأداة تساعد على المشى بعد عملية جراحية بعموده الفقرى .
عم على كان على حفاوته المعتادة ، ولكنه لم ينتقد شيئاً ، كان مفعماً بالمرح وهو يتذكر فترة شبابه والأفلام المصرية الفكاهية حينذاك . ولم أشأ ان اقاطع حكاواه . كنت مرتاحاً لرؤية ان روحه المصرية السعيدة أقوى وأعمق من مشقة الهجرة وسنوات الغربة الطويلة ومرارة الإحباط التى دفعته اليها .
يقدم عم على لنا درساً بوطنية لاتخمد ، وبفطرة لاتنطفئ أو تتلوث ، وبانسانية تستوعب تراث العالم دون ان تفقد محليتها ، وبعقل واعى لايغيب أو يخضع ، وبهجرة لاتعنى التغريب أو الانكفاء أو فقدان الأمل والذات ، وبقيم لا تعرف التنازل .
إن عم على ابن جيل شهدت له منطقتنا والعالم ، وتجربته فى الحياة ليست فى جيله خارجة عن المألوف ، وربما كانت دروسها دافعاً لنا ، تلهمنا للإفادة من تجربة جيل بأكمله وهو مازال على قيد الحياة .