خلال الأسابيع الأخيرة، دخلت الحرب الروسية الأوكرانية منعطفًا حادًا وخطيرًا، فبعد خسائر ثقيلة للجيش الروسي على عدة جبهات في شرق أوكرانيا أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة الجزئية وهدد باستخدام الأسلحة النووية لردع خصوم روسيا الداعمين لأوكرانيا.
هل يقترب بوتين من إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية؟
والجمعة الماضية، وقع بوتين مع قادة المناطق الانفصالية في شرق أوكرانيا، دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزابوروجيا، اتفاقيات انضمامها إلى الاتحاد الروسي، لتصبح بذلك جزءًا من الأراضي والسيادة الروسية "إلى الأبد" بحسب تعبير بوتين.
وعلى عكس معظم المراقبين الذين فسروا خطوات بوتين الأخيرة بوصفها تصعيدًا واستعدادا لمرحلة جديدة للحرب في أوكرانيا، رأت قناة "سي إن إن" الأمريكية أن بوتين إنما أقدم على تلك الخطوات المتتالية لأنه يتعجل إنهاء الحرب ولكن بشرط أن يظهر بمظهر المنتصر المحافظ على مكاسبه.
ولذا، دعا بوتين أوكرانيا، خلال حفل التوقيع على اتفاقيات انضمام المناطق الجديدة، إلى وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات، لكنه أعلن في الوقت ذاته أن روسيا لن تتفاوض على مصير المناطق المنضمة إليها.
ونقلت القناة عن أندريه كورتونوف، رئيس مجلس الشئون الدولية الروسي، وهو مؤسسة بحثية في موسكو تحظى بدعم الكرملين، أن "الرئيس بوتين يريد إنهاء هذا الأمر برمته بأسرع ما يمكن".
التعبئة الجزئية ونتائجها العكسية
قالت "سي إن إن" إن قرار بوتين إعلان التعبئة الجزئية، الذي يعني استدعاء 300 ألف عسكري روسي سابق من الاحتياط إجباريًا، لن يخفف من خسائر الجيش الروسي في مسرح العمليات في أوكرانيا على المدى القريب، وفضلًا عن ذلك فهو يأتي بنتائج عكسية ويسبب حرجًا سياسيًا لبوتين في الداخل.
ووفقًا لبيانات رسمية من الاتحاد الأوروبي وجورجيا وكازاخستان، فقد فر نحو 220 ألف روسي إلى الخارج عبر حدود البلاد منذ إعلان التعبئة الجزئية هربًا من التجنيد الإجباري، بل وتنقل وسائل إعلام روسية مستقلة عن مصادر في جهاز الامن الفيدرالي الروسي "إف إس بي" أن عدد الفارين خارج روسيا منذ إعلان التعبئة أعلى من ذلك، ويبلغ 261 ألف شخص، وهو عدد أكبر من حجم القوات الروسية التي تقاتل في أوكرانيا والذي يتراوح بين 160 ألفًا و190 ألف فرد.
وأضافت القناة أن بوتين الآن في سباق مع الزمن ويحتاج إلى إعلان النصر وإنهاء الحرب بأسرع ما يمكن، ويقول كورتونوف إن الخيار المنطقي لبوتين هو إعلان النصر ووقف الحرب بشروطه الخاصة، لكنه من أجل ذلك يحتاج إلى إنجاز كبير على الأرض، لأنه "لا يمكن لروسيا ببساطة العودة إلى ما كانت عليه قبل 24 فبراير، نحتاج إلى أن نقلو: هذا جيد، أنجزنا مهمتنا وعلينا العودة إلى الوطن. يجب أن يكون هناك شيء يمكن تقديمه للجمهور باعتباره انتصارا".
وأضافت القناة أن بوتين لجأ إلى نفس الحيلة عام 2014، عندما ضم شبه جزيرة القرم بالقوة إلى روسيا، وهدد بعدها باستخدام السلاح النووي إن حاولت أوكرانيا بدعم من حلفائها الغربيين استعادة القرم.
سباق إلى السلام؟
يتبع بوتين وقادة الغرب على السواء سياسة "حافة الهاوية"، أي رفع مستوى المخاطر والتهديدات إلى أعلى درجة ممكنة آملًا في تراجع واستسلام الخصوم، ومنذ ضم الأراضي الأوكرانية إلى روسيا وتهديد بوتين باستخدام الأسلحة النووية كرر زعماء الغرب تأكيدهم أن بلادهم لن تعترف بنتائج استفتاءات واتفاقيات الانضمام إلى روسيا، وأن الأخيرة ستواجه عواقب وخيمة إذا ما حاولت استخدام الأسلحة النووية بالفعل.
يعتقد كورت فولكر، الذي كان سفيرا للولايات المتحدة لدى حلف شمال الأطلسي والممثل الأمريكي الخاص لدى أوكرانيا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، أن بوتين ربما يستعد للسلام. ويقول فولكر "أعتقد أن ما يجب أن يسعى لتحقيقه هو التلويح بالأسلحة النووية وتوجيه جميع أنواع التهديدات لأوروبا، ثم القول: حسنًا، دعونا نتفاوض على تسوية واسمحوا لي أن احتفظ بما أخذته بالفعل".
وبدورها، تقول فيونا هيل، المسئولة السابقة بمجلس الأمن القومي الأمريكي، "بوتين يشعر بتعجل شديد لأنه يفقد الزخم، ويحاول الآن الخروج من الحرب بنفس الطريقة التي دخل بها، أي بوصفه الشخص الذي يحدد إطارًا لشروط أي نوع من المفاوضات بالكامل".
وعلقت "سي إن إن" بالقول إنه يمكن تفسير حادث تسرب الغاز الذي وقع الاثنين الماضي في خطي نورد ستريم 1 و2 على ضوء هذه التحليلات، وهو التسرب الذي ترجح مصادر استخباراتية غربية أنه ناجم عن عمل تخريبي تقف روسيا خلفه.
ونقلت القناة عن مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السابق جون برينان تأكيده أن روسيا لديها من القدرات ما يمكنها من تخريب خطي نورد ستريم وتسريب الغاز منهما، وكأنها ترسل رسالة إلى أوروبا مفادها أنها قادرة على الوصول إلى ما وراء حدود أوكرانيا، وتهديد أمن الطاقة في أوروبا في وقت تضغط أزمة الطاقة بشدة على أعصابها.
بوتين ودبلوماسية الشتاء
قد يكون اقتراب فصل الشتاء من العوامل الأخرى التي أدت إلى تعجل بوتين إنهاء الحرب في أوكرانيا. فعلى مر التاريخ، حمى الشتاء القاسي والجليد روسيا من الغزاة الأجانب مثل نابليون بونابرت وأدولف هتلر، بسبب صعوبة إيصال الإمدادات إلى القوات على الخطوط الأمامية عبر الطرق الوعرة والمتجمدة، وعجز القوات الأجنبية عن مواصلة القتال في البرد القارس.
ويقول فولكر إن ما أنقذ روسيا تاريخيًا هو نفسه ما يضغط الآن على بوتين: "هذه المرة، روسيا هي التي تحاول أن تمد خطوط الإمداد، وتحاول دعم قواتها في أوكرانيا. سيكون ذلك صعبا للغاية هذا الشتاء".
ووفقًا لهيل، يريد بوتين أن تكون مفاوضاته مع بايدن وحلفائه، وليس مع أوكرانيا، موضحة "أنه يقول: الآن سيتعين عليكم التفاوض معي وتقديم عرض من أجل السلام. وهذا يعني الاعتراف بما فعلناه على الأرض في أوكرانيا".
وبعد أن فشل في مواجهة الوحدة العسكرية الغربية التي تدعم أوكرانيا، يبدو أن بوتين عازم على اختبار التصميم الغربي دبلوماسياً، من خلال محاولة تقسيم الحلفاء الغربيين حول شروط السلام.
يتوقع فولكر أن يحاول بوتين إقناع فرنسا وألمانيا أولاً "بالقول: نحن بحاجة إلى إنهاء هذه الحرب، سنحمي أراضينا بأي ثمن وباستخدام أي وسيلة ضرورية، وعليكم الضغط على الأوكرانيين لقبول التسوية".
وعلقت القناة بأنه إذا كانت هذه هي خطة بوتين، فستكون أسوأ تقدير استراتيجي له حتى الآن، فالغرب لا يريد ولا يقبل أن يخرج بوتين من هذه الحرب بمكاسبه منتصرًا.
وختمت القناة بالقول إنه ربما تكون الحرب في أوكرانيا قد دخلت مرحلة جديدة، وربما يكون ظهر بوتين للحائط، لكن إنهاء الصراع ربما لا يزال بعيد المنال.