الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المذهب الإسماعيلي وإرهاصات العولمة

د. إبراهيم تركي
د. إبراهيم تركي

إذا كان قد استقر لدينا أنه ليس هناك ما يمنع وجود فلسفة سياسية في الفكر الإسلامي أياً كان عمق ودقة ووضوح معالم هذه الفلسفة، فإنه يكون من المستساغ والحالة هذه أن نتحدث عن فلسفة السياسة على نحو ما هي موجودة في المذهب الإسماعيلي.

وقبل أن نمضي قدماً في معالجة هذه المسألة، فإنه ينبغي علينا أن نلفت الأنظار إلى أن الآراء التي نثبتها هنا باعتبار أنها تعبر عن وجهة نظر المذهب الإسماعيلي في بعض جوانب الفلسفة السياسية، إنما هي من قبيل الأقوال الاستطرادية التي لم يكن إيرادها يُقصد به التعبير عن وجهة نظر خاصة في هذه المسألة أو تلك، وذلك بالإضافة إلى أن طائفة أخرى من الآراء كانت قد وضعت في سياقات بعيدة عن البحث الفلسفي في السياسة، وقد قمنا بتكييفها حتى تتلاءم مع الإطار العام للفكر السياسي.

فإذا كان ذلك كذلك، فإننا نستطيع أن نلج في الحديث عن موضوع هذه المقالة، وذلك بالقول بأنه ربما يكون قد أصبح من الواضح أن السياسة بالمعنى العلمي إنما تتمركز في المحل الأول حول الدولة، حيث يكون الاهتمام بكل ما يتعلق بها من أمور داخلية أو خارجية، ولبيان ذلك فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الدولة هي المجتمع السياسي الذي تحكمه السلطة السياسية الشرعية في إطار جغرافي معين، حيث تتمتع بالاستقلال والسيادة والاستمرارية السياسية.

وإذا كان من الملاحظ أن المذهب الإسماعيلي قد نجح في تكوين دول إقليمية كانت أقواها وأطولها أمداً الدولة الفاطمية في مصر، فإنه كانت لديهم فكرة عن الدولة العالمية أو الدولة الكونية التي يمكن أن تكون على غرار الامبراطورية العالمية التي تحدث عنها رواقيو العصر الروماني.

ويمكن من جانبنا أن نقدم تفسيراً لهذا الموقف السياسي من الدولة ما بين الإقليمية والكونية، بالقول إن العديد من الكتاب الإسماعيليين قد أكدوا على القول بضرورة التسليم بازدواجية الظاهر والباطن وعدم الاستغناء بأحدهما عن الآخر، الأمر الذي يعني أن الدولة الإقليمية قد تمثل الظاهر، بينما الدولة الكونية تمثل الباطن.

وفيما يلي فإننا سنحاول إلقاء الضوء على هذه المقومات، سواء أكان ذلك في حالة انطباقها على الدولة الإقليمية أو في حالة انطباقها على الدولة الكونية.

وتبياناً لذلك، فإنه يمكن القول إن المذهب الإسماعيلي لم يكن يهدف إلى تقديم أبحاث منظمة في فلسفة السياسة، وإنما نستطيع نحن من جانبنا أن نقدم تصوراً لمعالم الفلسفة السياسية عند الإسماعيليين، وعلى رأسها مسألة الدولة الكونية في المذهب الإسماعيلي.

وأول ما يلفت النظر لدى من يطلع على بعض المؤلفات الإسماعيلية، أن هذا المذهب كان ينزع منزعاً مثالياً في مجال السياسة، ومن أبرز الأمور التي تؤيد  ما نذهب إليه التصور الكوني للدولة لدى الإسماعيلية.

فقد جعل الإسماعيليون العالم الذي كان معروفاً في عصرهم مثل السنة المنقسمة إلى اثنى عشر شهراً، وإذن فيجب أن يقسم العالم إلى اثنى عشر قسماً، وسموا كل قسم "جزيرة"، وجعلوا على كل جزيرة من هذه الجزر داعياً هو المسئول الأول عن الدعاية فيها، وأطلقوا عليه لقب "داعي دعاة الجزيرة" أو "حجة الجزيرة"، وقالوا إن الدعوة لا يمكن استقامتها إلا باثنى عشر داعياً يتولون إدارتها.

ولذلك جعلوا لكل داعٍ من دعاة الجزر عدداً من المساعدين يعرف الواحد منهم بـ “الداعي النقيب”، وعددهم في كل جزيرة ثلاثون داعياً نقيباً قياساً على أيام الشهر الثلاثين، وهم يساعدون داعي دعاة الجزيرة في نشر الدعوة، وهم قوته التي يستعين بها في مجابهة الخصوم، وهم عيونه التي بها يعرف أسرار العامة والخاصة، وكانوا بمثابة وزرائه ومستشاريه في كل ما يتعلق بجزيرته.

وجعلوا لكل داعٍ من هؤلاء الدعاة أربعة وعشرين داعياً مأذوناً أو مكاسراً، ولكل مرتبة من هذه المراتب عمل خاص به.

وكل واحد من هؤلاء المكاسرين لا بد أن يكون على دراية بعقائد وأفكار وعادات وتاريخ الفرد أو الجماعة التي يوجه إليها الدعوة.

وإذا كان هذا النظام الدقيق للدعوة قد أتى بثماره في مجال نشر الدعوة الإسماعيلية، فإننا نستطيع أن نستنبط منه أن المذهب الإسماعيلي كان على وعي تام بضرورة إقامة دولة عالمية أو كونية، وقد كانت الدعوة المنظمة تمثل الخطوة الأولى للسعي نحو إقامة هذه الدولة العالمية.

وإذا كان أحد من الكتاب الإسماعيليين لم يتطرق إلى القول بأن أفكار الإسماعيلية قد تمثل إرهاصات لفكرة العولمة المعاصرة، فإننا نطرح هذه الفرضية مع محاولة لتأكيد صحتها.

ومما يؤكد صحة ما نذهب إليه، أن الإسماعيليين وإن كانوا يعرفون تماماً حدود الدولة وأركانها من الناحية الظاهرية، فإنهم في ثنايا تنظيمهم الدعوى كانوا يعتقدون أن دعوتهم شاملة لجميع سكان المعمورة من أي مذهب كان وربما من أي دين.

ونستطيع كذلك أن نشير إلى مقوم آخر من مقومات الدولة عند الإسماعيلية، ونعني به فكرة المواطنة، فإذا كان المرء الذي يعيش في ظل الدولة الإقليمية يتمتع بالمواطنة عندما يشعر بالمساواة بينه وبين غيره، فإن هذا الشخص الذي دخل في الدعوة الإسماعيلية وسار في مدارجها والتزم بتعاليمها لا بد أن يشعر بالمواطنة العالمية طالما أن هذه الدعوة قد اتخذت طابعاً عالمياً. 

هذا عن الإقليم باعتباره أول أركان الدولة، أو عن المواطنة باعتبارها ثانية هذه الأركان، أما عن الشعب باعتباره ثالث هذه الأركان، فإن الإسماعيليين وإن كانوا يتحدثون كثيراً عن الشريعة الإسلامية باعتبار أنها تمثل العلم الظاهري الذي لابد من تأويله باطنياً، فإنهم مع ذلك قد تبنوا فكرة وحدة الأديان أو ما يمكن أن يسمى “الشمول في العقيدة”، وهي من أهم الأفكار التي تؤسس لفكرة العولمة وتكرسها في العقول والنفوس. 

ومما يؤيد صحة ما نذهب إليه، أنهم قالوا بأدوار الأنبياء، فلكل نبي دوره، ويأتي النبي الذي بعده ينسخ شرع النبي قبله، فلما جاء دور محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهو خاتم الأنبياء، جمع الله له كل أدوار الأنبياء قبله، فمحمد هو آدم وهو نوح وهو إبراهيم وهو موسى وهو عيسى، وإن ما حدث في أدوار هؤلاء الأنبياء يحدث مثله في دور محمد، وما حدث لأوصياء الأنبياء يحدث لوصي محمد والأئمة بعده، وأولوا ذلك كله تأويلاً يثقف مع عقيدتهم هذه.

وإلى جانب الاعتقاد في وحدة الأديان، فإن الإسماعيليين مجتمعون على وحدة الآمال التي تتمثل في زوال دولة الشر وإقامة دولة الخير التي يمكن أن يعيش في ظلالها جميع الأفراد، وما الدولة الإقليمية المعروفة التي أقامها الإسماعيليون الواحدة تلو الأخرى إلا توطئة لهذه الدولة العالمية التي تدين بالمذهب الإسماعيلي.

فإذا ما وصلنا إلى رابع المقومات التي تقوم عليها الدولة، ونعني بذلك الحكومة، فإننا نلاحظ أن الإسماعيلية قد أقاموا نظاماً دقيقاً للدعوة التي يشرف عليها الإمام، وهو ليس رأس الدولة الإقليمية فقط، وإنما هو رأس الدولة العالمية أيضاً، ثم تحدثوا عن الجهاز الإداري للدولة (سواء في صورتها الإقليمية أو العالمية) الذي يشتمل على حدود تتدرج مراتبهم تدرجاً تنازلياً بحيث يبدو الجهاز الإداري للدولة العالمية على شكل هرم قمته الإمام وقاعدته الدعاة المكاسرون الذين يسند إليهم أمر الدعوة إلى المذهب الإسماعيلي.

وبغض النظر عن الحديث عن الجهاز الإداري للدولة الفاطمية، وعن الشرطة والجيش والقضاء، فإن المصادر المتاحة عن تاريخ الإسماعيلية، لم توضح لنا بالتفصيل ما قدمه الكتاب الإسماعيليون من تصورات حول هذه الدولة العالمية المنشودة التي ربما كان مقرها الأساسي في القاهرة، فيكون ثمة اشتراك في مهام الجهاز الإداري بين الدولة الإقليمية والدولة العالمية.

أما عن القانون الذي يحدد العلاقات بين أفراد الشعب من جهة وبينهم وبين الحكومة من جهة أخرى وبين الدولة الفاطمية وغيرها من الدول الأخرى، فإنه لا يختلف عن الآراء الفقهية المعروفة في ذلك العصر، وإن كان له تأويل باطني فإنه لا يطبق إلا على المنتمين إلى الدعوة الإسماعيلية بالفعل.

وإذا كان تعيين الجهاز الاداري للدولة الإقليمية لا يتم إلا بموافقة كبار الدعاة الذين يرفعون الأمر إلى الإمام، فإن تعيين الإمام سواء في الدولة الإقليمية أو الدولة العالمية من وجهة نظر الإسماعيليين إنما يكون عن طريق النص والوصية كما هو معروف في الفكر الشيعي الذي يتبنى النظام الثيوقراطي.  

فإذا كانت هذه مجرد إشارات أردنا بها التنبيه على أن المذهب الإسماعيلي في إطاره العام ومع ما فيه من سلبيات، فإنه من المذاهب القليلة التي تصلح لأن تمثل أحد الإرهاصات لفكرة العولمة المعاصرة، وهي أحد الإرهاصات لأنها كانت منذ زمن بعيد، وقد انحسر تأثيرها في مجال الفكر منذ وقت غير قصير. 

إلا أنه من المرجح لدينا أن يكون المذهب الإسماعيلي قد أثر في بعض الصوفية المتأخرين الذين تحدثوا عن فكرة الحكومة الباطنية التي تعتبر بحق صورة من صور الدولة العالمية.