الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مجتمعات متعددة الثقافات

د. هادي التونسي
د. هادي التونسي

فى إطار محاولتى استيعاب لدروس التاريخ واغوار النفس بما فيها مكنون ذاتى ، كانت العلاقة مابين الاجناس والثقافات مثار اهتمامى فى الدول التى زرتها. 

ففى بلدان أمريكية شهدت هجرات أوروبية منذ القرن السادس عشر تمت ابادة شعوب السكان الأصليين كلياً أو جزئياً وفرض ثقافات ومعتقدات عليها، واحيانا مع اتاحه مجال ضيق للثقافات الاصلية ومع وجود حيز متباين من الاندماج والتزواج بين الاعراق . 

وفى الجنوب الأفريقى امتنعت الأقليات المهاجرة من شمال اوروبا عن الاختلاط بالافارقة السمر فى غير اماكن العمل ، بحيث تم استخدامهم مع اقلية اسيوية مجلوبة كعمالة دنيا لبناء الاقتصاد والمرافق وفى مجال التعدين وفق قوانين صارمة ، تمنع عليهم التعايش او التزاوج مع الاقلية البيضاء ، التى  تمتعتبمستوى معيشى راقى فى مدن اوروبية الطابع ، فارضة نظام الفصل العنصرى بالقوة الغاشمة والقهر ، وتاركة السكان الاصليين فى حياة بدائية بائسة ، ومانعة اياهم من الترقى بالتعليم. 

وكان الساسة البيض فى ذلك العصر يبررون مواقفهم العنصرية بتفسيرات دينية خاطئة ، وبدعاوى عنصرية ترتكز على تفوق النظام القيمى الاوروبى والى ان قدرات وثقافات وتقاليد الافارقة السود تجعلهم غير مؤهلين للعمل والتحضر للحصول على المساواة مع البيض او العيش معهم. 

ولكن السبب الرئيسى فى رأيى كان رغبة الاقلية البيضاء فى اكتناز الثروات لصالحها واحتكار السلطة وحماية نفسها ومدنها من اكثرية كاسحة سمراء عن طريق اضعافها وتسخيرها واذلالها وقهرها .. والثابت فى القارتين الافريقية والامريكية هو عقلية الاقصاء المستندة على تفوق الرجل الابيض ورسالته التى بررت ارتكاب المظالم والاستبعاد والوحشية فى حين ان الافريقى الاسمر تناسى بعد انتهاء الفصل العنصرى الرغبة فى الانتقام وتعايش فى سلم وتسامح نسبى مع اعداء الامس ، تاركاً لهم الاقتصاد والخدمات ومحتفظاً مؤقتاً على الاقل بالسلطة السياسية ، ومستفيداً من مهاراتهم الفنية والعلمية والادارية ، ربما حتى يكتسب خبرات كافية تتيح له نصيباً عادلاً من الثروة . 

وقد يكون الطريق للمواطن الاسود فى سعيه العادل لنيل حقوقه فى عالم يحترم القوة والكفاءة وينزع للانتصار لهما ، ان يزاوج تقاليده وثقافته الاصلية بقيم الحرية والعمل والانفتاح والعلم والتقدم والسلام ، وهى ليست حكراً على جنس أو دين بعينه ، وان يعنى بنوعية التدريب والتعليم ليبنى مجتمعاً على اساس الديمقراطية والشفافية والحرية والمساواة ، فتغتنى مسيرة الانسانية باسهامات حضارة تؤثر الاستيعاب والتسامح والسلام على الاقصاء والكراهية والقهر .

ان ذلك هو الماضى بعيداً كان أو قريب ، ولكن الحاضر امر آخر فى احوال كثيرة ، فالمجتمعات متعددة الثقافات والاعراق ان عاشت سلماً تتسم بثراء وتسامح ، جوهره احترام الاختلاف والايمان بالحرية والسلام ، وهى دليل على رقى الانسان وانسجامه مع ذاته الذى سينعكس على علاقاته مع الاخرين ، وهى اعلان صريح عن ان العنصرية وامتلاك الحقيقة المطلقة والتعصب الاعمى من مخلفات الماضى التى تتنافى مع تمدين وكرامة الانسان واحترامه لذاته والآخرين . 

انك فى تلك المجتمعات تتلاقى يومياً مع ثقافات وتقاليد واساليب حياة متنوعة وكأنك زرت بلداناً عديدة ، وتصبح التجربة ثرية ، وتنهار الحواجز بين البشر والاديان والحضارات وينتعش الامل فى سلام العالم وسعادة البشر . هى مجتمعات تتغلب فيها الرغبة فى الانفتاح والتعلم والتفاهم والمرونة على روح الانغلاق والتعصب والكراهية والتصلب التى لاتؤدى الا للنزاعات والشقاء . 

يكفى ان تنظر الى بلدان استقرت فيها التجربة بنجاح لتدرك كم امتلأت نفوس مواطنيها بالتفاؤل والاعتدال والثقة فى الخير والتراحم . فهذا ماعلمتهم مدرسة الحياة وصلات القربى والنسب مع اعراق وديانات اخرى ، حين يصبح التناقض مع الآخرين تناقضاً مع النفس . 

انك فى مجتمعات كهذه تراهم يبحثون عما يجمع البشر ويستوعب الغير وليس عما يفرق أو يدين . ويشعر المرء فيها بالعالمية والمحلية معاً وان الانتماء لجماعة او لدين او لوطن لايعنى استقطابا بين ولاء أعمى لهم وعدوانيه وشكوك ومخاوف تجاه الآخرين . 

فكرامة وحرية الانسان لاتتجزأ ، والخير والشر موجودان فينا جميعاً دون محاور ودون اقصاء ، والبشر سواسية باختلاف اعراقهم واديانهم اذا ما اتيحت لهم الفرص المتساوية ، وهناك فرق بين الوطنية والشوفينية وبين التدين والتعصب . وفى كل وجهة نظر حق قد يساء استغلاله . 

والاختلاف والتباين دافع للتعلم واعمال الفكر وترويض النفس وضرورى لديناميكية الحياة . واستيعاب كل ذلك طريقنا للتناغم مع الننفس والآخرين والدنيا وسبيلنا لمحبة الله وادراك حكمته وفهم تناقضات حياة مع قيم تعلمناها ووجدناها - مع تمسكنا بها - لاتكفى للاجابة على كل التساؤلات .