الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الملكة إليزابيث

نهال علام
نهال علام

الحياة بوتقة الزمان والمكان التى تدمج الأحداث وتصهر التفاصيل، تسأل الذاكرة عما كان، فتجيبك بحكاية مطلعُها كان ياما كان.

كُنا صغاراً فألقوا علينا الحكايات، وها نحن صرنا كباراً لنصنع القصص ونشارك الكون في مشاهدة الروايات، وسيشهد شاهِد من أهلها، لذا عليك أن تنتبه إذا كنت أهلاً لها، فالقدر لا يعبث وإشارات السماء لا تخطئ، وكل ما يَمُر بِنا إنما هو جزء سيشكل يوماً جزء مِنا، وهذا يجعل مِنك بطل اللحظة فقط استمع واستمتع بمعطيات الصدفة!

فالصدفة ابنة بارة للقدر، ونحن عباد رب هذا القَدر، له منيبون وإليه راجعون ومهما كانت الضغوطات فنحن حامدون، وإن طالت الأيام فنحن له عائدون، ولن نذهب إلا وحيدون، بما زرعته أيدينا آي دون مال وبنون بِلا مناصب ولا يحزنون! راضون يا إلهي.. اغفر لنا إن كنا قانطين، فذلك غياب عقل عندما ننسى أننا في تلك الدار لبعض وقت قاطنون، والرحيل آتٍ وإلا أين ذهب السابقون حتى لو كانوا على العرش متسيدون!

سبعون عاماً وسبعة أشهر إلا قليلا فترة حكم الملكة التى قد تكون آخر رمز للملكية المؤنثة لفترات طويلة، إن لم تكن الأخيرة، تركت المُلك لتذهب للمالِك عن عمر ناهز 96 عاماً، بعد حياة عامرة بالأحداث الجللة، فيكفى أنها ولدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتوفيت فيما يبدو على أعتاب حرب عالمية ثالثة.

لا شك أنها جنازة القرن، وكما كانت هى أول ملوك بريطانيا التى ينقل مراسم تنصيبها قنوات التلفزيون، فقد حظيت مراسم جنازتها بأضخم تغطية إعلامية، وأكبر مشاهدة عالمية، إذ صنفت الجنازة أنها البث المباشر الأكثر مشاهدة في العالم، حيث شاهده نصف سكان العالم.

شهد مراسم الجنازة ما يزيد على 2000 شخص من قادة العالم أو من ينوب عنهم، كما حضرها 200 شخص من العامة ولكن كانت لهم في المملكة مساهمات خاصة، ومنها مساهمات البعض في تخفيف الأوضاع أثناء جائحة كورونا، هذا بالإضافة لآلاف الأشخاص الذين انتظروا لساعات طويلة أمام قاعة ويستمنستر لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة في الأيام الكثيرة بين وفاتها ومراسم دفنِها، ومنهم نجم الكرة ديڤيد بيكهام الذى انتظر لمدة 12 ساعة ليستطيع تقديم فروض الولاء والاحترام المغمورة بعبق الوداع.

توفيت الملكة في قلعة بالمورال في إسكتلندا، التى اعتادت على مدار سنوات عمرها الطويلة أن تقضى بها إجازتها الصيفية، وعندما سألها مصورها الخاص ذات مرة عن سر عدم ذهابها لأي وجهة أخرى، فجاءت إجابتها مفاجئة وإن كانت حقيقية وصادقة: "أين أذهب!"، إجابة كاشفة عن مفهوم المُلك الحقيقي، فالمَلِك هو من امتلك زمام أمره وتحكم في لجام لحظات عُمره.

"ليلي بث" أو الملكة إليزابيث الثانية التى كانت على سُدة مُلك إمبراطورية كانت يوماً لا تغرب عنها الشمس، لم تعرف حياتها الأسرية بصيصا من ضوء تلك الشمس!

واجهت الملكة بجلد وحكمة وصمت طلاق ثلاثة من أبنائها وفضيحة التحرش التى أدين أصغر أولادها الأمير أندرو بارتكابها في نيويورك، مما اضطرها لنزع الألقاب العسكرية عنه، وربما أن تلك الواقعة هزت قلبها، لكن قطعاً حادثة الأميرة ديانا هى ما هزت عرشها حتى بعد وفاتها، فبالرغم من مرور ربع قرن على الحادث، إلا أن الكثيرين تمنوا يوم تنصيب تشارلز ملكاً لو كانت ديانا ملكة القلوب هي الملكة التى ستعتلى عرش بريطانيا وتتوجه بإنسانيتها عوضاً عن تلك الكاميلا التى لم يغب عن الملكة الأم أن تقوض صلاحياتها.

شهد العالم مراسم الجنازة الأسطورية التى عجت بتفاصيلها وسائل التواصل الاجتماعية، ولكن ستبقى هناك دلائل إنسانية تحكى لنا الكثير عما نتوقعه في السنوات القادمة!

فالتقارير التى صورتها وكالات الأنباء العالمية، أظهرت اتجاهات الشعب تجاه فكرة الملكية، فكبار السن هم الأكثر تأثرًا برحيل الملكة، غلبتهم الدموع وإن غلبوا صعاب الانتظار لفترات طويلة تبجيلاً للمرور الأخير لملكتهم الجليلة، أما جيل الوسط فسجل حضورا عظيم الأثر، ولكن كانت الفكرة الراسخة تسجيل تلك اللحظة التاريخية التى تمثل قطعاً حدثاً غير عادي.

أما جيل الشباب، فكان الأقل حضوراً والأكثر تذمراً من تلك المراسم الطويلة، وكما أظهرت التقارير المتواترة ميول تلك الفئة، التى تعزُف عن فكرة الملكية بل والمطالبة بإلغائها في العقود القادمة، وتلك إشارة لا يمكن تجاهلها ولن يسهل تجاوزها، فهى دولة أوروبية لها طبيعة خاصة ومؤثرة، وإن كانت فكرة المُلك رمزية إلا أنها ذات حيثية.

رحلت الملكة وربما نزعت برحيلها صمام الأمان عن مفهوم الملكية في العالم أجمع، خاصة مع ما وصفه البعض بأنها أنظمة استعبادية للملوك قبل الشعوب، لذا نحن أمام أجيال مختلفة اعتادت وجود الملكة لكن لا تستسيغ فكرة الملكية، وها نحن سنشهد ما تحمله العقود المستقبلية.

ويبقى أن نذكر أن تابوت الملكة تم صنعه قبل ثلاثين عاما، وأشرفت هى بنفسها على كل تفاصيل الجنازة بدءاً من تصميم السيارة التى تحمل التابوت وحتى باقة الورد التى رقدت فوقه في حزن ووقار، وحرصت الملكة على أن يكون الجزء الأكبر من السيارة من الزجاج المكشوف ليتسنى للجموع إلقاء نظرة الوداع، وتميزت الورود بزهاء ألوانها كما عودتنا في حياتها على اختياراتها في ملابسها، وعندما سُئلت عن سبب تلك الألوان أجابت ضاحكة أن تلك شيم الملكات أن تكون واضحة لشعبها ولا تخطئها عين.

وتظل اللحظات الإنسانية أقوى وأبقى الرسالات التاريخية، فنظرات الفقد والحزن في عيون موظفى قصر باكينغهام أو قلعة ويندسور هى الأصدق، وذلك الانكسار البادى على ملامح كلاب الملكة لحظة وداعها هو الأوفى، وربما تلك اللحظة الأغرب التى أبلغ فيها نحال القصر النحل في طقوس خاصة برحيل سيدتهم والعمل على إرضاء سيدهم الجديد كانت من ابرز المعانى التواصلية بين مخلوقات الله في أرضه، البشر والحجر، الطير والنبات، الحشرات والحيوانات كلها في ملكوت الله تشعر بما تتأثر به فطرة الإنسان النقية قبل أن تتأثر بمفردات الدنيا الشقية.

وفي النهاية لا مُلك دائم ولا سلطان باقى إلا وجه الله الواحد الأحد، فكل من عليها فان مهما عظم شأنه أو كان، ولا باقٍ غير وجه الله ذو الجلال والإكرام!