تمر الحرب الروسية الأوكرانية بمنعطف رئيسي ربما هو الأهم منذ نشوبها في 24 فبراير الماضي، إذ يتخلى الجيش الروسي عن مواقع رئيسية على جبهة خاركيف شمال شرقي أوكرانيا، وينفذ انسحابات كبيرة مقابل تقدم القوات الأوكرانية.
والسؤال الآن، كما تطرحه قناة "إن بي سي" الأمريكية، هو عن الخيارات المطروحة أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذه المرحلة الحرجة. هل يأمر الكرملين بإعلان التعبئة الشاملة، أم يستمر بالاعتماد على الغاز والنفط كسلاح للضغط على حلفاء أوكرانيا، أم يقدم على خطوة أكثر تهورًا مثل توجيه ضربة نووية تكتيكية؟
إعادة تجميع القوات بعد الانسحاب
مع سعي أوكرانيا إلى تعزيز مكاسبها والتقدم أكثر في الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، تبدو الحاجة الفورية للكرملين هي تثبيت الهجوم الأوكراني وصده. يمكن لبوتين تهدئة القلق في الداخل الروسي بشكل عاجل من خلال وقف التقدم الأوكراني والعودة إلى حالة الجمود النسبي التي أثبتت أنها نقطة ضغط فعالة على كييف وحلفائها الغربيين.
على المدى القصير، سيعني ذلك استقرار الخطوط الدفاعية الروسية في إقليم دونباس المكون من مقاطعتي لوجانسك ودونيتسك، حيث حاربت روسيا بشق الأنفس للتقدم طوال الصيف، وكذلك في الجنوب حول مدينة خيرسون الساحلية الحيوية.
ويقول الجنرال الأمريكي المتقاعد ستيفن تويتي، النائب السابق لقائد القيادة الأمريكية في أوروبا، إن "أوكرانيا لا تزال بعيدة عن النصر"، معربًا عن اعتقاده أن الحرب قد تطول لعام أو عامين أخريين.
ومع ذلك، إن فشل الجيش الروسي في التمسك بمواقعه في شرقي أوكرانيا وجنوبها، فسيعني ذلك ان اللعبة قد انتهت بالنسبة إلى الكرملين وبوتين.
وأضاف تويتي "لقد أراد الروس احتلال أوكرانيا بالكامل وفشلوا، وأرادوا احتلال كييف وفشلوا، ولذا غيروا هدفهم إلى السيطرة على شرقي أو كرانيا وجنوبها لإقامة هذا الجسر البري"، في إشارة إلى فكرة روسية حول إقامة جسر بين المناطق المحتلة في جنوب شرقي أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وتابع "إن لم يحققوا هذا الهدف الأخير يكونون قد خسروا الحرب، ولذا لا أعتقد أن بوتين سيستسلم بهذه السهولة".
ويبدو أن طموح بوتين الأساسي يتمثل في استمرار السيطرة على شبه جزيرة القرم، فضلاً عن ضم إقليم دونباس والأراضي الساحلية على طول البحر الأسود. وقد ألغى المسئولون الذين نصبتهم موسكو الاستفتاءات المقترحة لتلك المناطق للانفصال ن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا في أعقاب تقدم القوات الأوكرانية مؤخرًا.
ويرى بعض الخبراء أن بوتين قد يأمر القوات الروسية بالزحف غربًا بطول الساحل الأوكراني وصولًا إلى ميناء أوديسا الاستراتيجي، لتحقيق هدف مزدوج يتمثل في رفع معنويات الجيش الروسي وحرمان أوكرانيا في الوقت ذاته من السيطرة على جميع موانئها. أما الخيار التكتيكي الآخر أمام بوتين فهو إعادت تجميع القوات الروسية النسحبة في إقليم دونباس وتوجيهها لشن هجوم مضاد شرقي أوكرانيا.
ومع أن بوتين بدا هادئًا وغير منزعج بالتطورات على الخطوط الأمامية للحرب في أوكرانيا، عندما قال خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون أمس الجمعة في العاصمة الأوزبكية سمرقند "لسنا في عجلة من أمرنا"، فليس من الواضح ما الذي يمكن للجيش الروسي تحقيقه بشكل واقعي بقوته الحالية.
التعبئة الشاملة
تعالت مؤخرة نبرة نقدية نادرة من جانب أقرب حلفاء بوتين ومؤيديه، حيال سلسلة إخفاقات الجيش الروسي في الشرق الأوكراني، وأعرب الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، الحليف المقرب لبوتين، عن إحباطه المتزايد مما وصفه بالفشل العسكري الروسي "المذهل" في أوكرانيا، قائلاً إنه "سيضطر إلى التحدث مع قيادة وزارة الدفاع" إذا لم يكن هناك التغييرات في الاستراتيجية.
وذهب قديروف إلى أبعد من ذلك عبر قناته على تطبيق تلجرام يوم الخميس الماضي، ودعا كل رئيس مقاطعة روسية إلى جمع 1000 متطوع للانضمام إلى القتال، وقال إنه سيجمع 85 ألف شخص أو "جيش تقريبًا".
ومنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، تجنبت موسكو طوال الوقت إعلان التعبئة الكاملة، وأصر الكرملين على التقليل من أهمية الحرب باعتبارها "عملية عسكرية خاصة"، لأن التعبئة العامة للجنود الروس ستلفت الانتباه إلى مدى دقة الموقف وتنطوي على اعتراف ضمني بأن الحملة العسكرية لا تسير على ما يرام.
ومن شأن التعبئة العامة أن تمكن الجيش من حشد مليوني جندي احتياط روسي، وتسمح له بتوسيع التجنيد ووضع الكرملين في موقف يسمح له بتوجيه القطاع الصناعي لخدمة متطلبات الحرب. وستتطلب التعبئة الكاملة تدريبًا مكثفًا وإعادة تخصيص المواد والاقتصاد، مما يعني أن الأمر قد يستغرق حتى الربيع المقبل على الأقل حتى يكون له تأثير على ساحة المعركة.
كما يمكن أن تؤدي التعبئة الكاملة إلى رد فعل متذمر في المدن الروسية الكبرى، حيث استمرت الحياة من نواح كثيرة كالمعتاد ولم يعان سكان المدن من نفس أعداد الخسائر البشرية في المعارك التي تعاني منها المقاطعات الريفية حتى هذه اللحظة.
قال دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، هذا الأسبوع إن الكرملين لا يفكر في التعبئة الكاملة، لكن مناقشة الفكرة كانت موضع ترحيب إلى حد ما، لكنه أضاف محذرًا "يمكن اعتبار وجهات النظر النقدية تعددية طالما بقيت ضمن حدود القانون. لكن الخط الفاصل رفيع جدًا. يجب على المرء أن يكون حذرًا هنا".
السعي إلى تسوية سلمية
في مقابل الأصوات التي تنتقد الاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا وتطالب بشن هجوم أقوى وأكثر فاعلية، تتعالى أصوات أخرى تنتقد الحرب كلها من حيث المبدأ وتدعو إلى وقفها والسعي نحو تسوية سلمية للخلافات بين روسيا وأوكرانيا.
وقال السياسي الروسي المعارض بوريس نادجين، في حديث لقناة "إن تي في" المملوكة للدولة الروسية إن الكرملين ليس لديه فرصة للانتصار، وأن عليه التركيز على محادثات السلام، منتقدًا "أساليب الحرب الاستعمارية والاعتماد على الجنود المتعاقدين والمرتزقة".
ودخلت موسكو وكييف في مفاوضات خلال وقت مبكر من الحرب، لكنهما فشلا في إحراز تقدم جوهري نحو أي اتفاق سلام. وبالنظر إلى طموحات بوتين الإقليمية وثقة أوكرانيا المتزايدة في قدرتها على استعادة أراضيها المفقودة، قد تتطلب أي صفقة تنازلات لا يرغب أي من الطرفين في تقديمها.
الخيار النووي
حذر بعض المحللين من احتمال لجوء بوتين إلى استخدام الترسانة النووية الروسية مع تزايد إدراكه لمدى حرج الموقف وتحول ميزان الحرب لصالح أوكرانيا.
لقد تراجعت المخاوف من مواجهة نووية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي منذ بداية الحرب، لكن محللين قالوا إن توجيه ضربة تكتيكية محدودة النطاق ضد أوكرانيا يظل احتمالًا قائمًا، خاصة إذا استمر موقف بوتين في التدهور.
ومن الممكن أن تقدم مثل هذه الخطوة مكاسب عسكرية محدودة لروسيا، بينما ستؤدي إلى انتكاسة جيوسياسية يمكن أن يخرج فيها الوضع عن سيطرة الكرملين.
ومع ذلك، تقول روز جوتيمولر، النائبة السابقة للأمين العام لحلف الناتو، إن العالم بحاجة إلى أن يظل يقظًا لأنه من الممكن أن يوجه بوتين ضربة تكتيكية كدليل على القوة النووية لروسيا، ربما تطال هدفًا في البحر الأسود أو منشأة عسكرية أوكرانية "من أجل إشاعة موجة من الإرهاب، ليس في أوكرانيا وحدها، وإنما في المجتمع الدولي الذي قد يضغط على أوكرانيا حينئذ لإعلان استسلامها".
وأضافت "أعتقد أن هذا هو الخيار الأقل احتمالا بالنسبة لبوتين، لكن لنتذكر أن هناك أسلحة دمار شامل أخرى، بما في ذلك التسبب في كارثة بمحطة للطاقة النووية أو استخدام أسلحة كيماوية أو بيولوجية. يجب على الجميع أن يدرك أن هذا قد يكون احتمالًا".
وعلى الرغم من أن الكرملين لم يهدد باستخدام الأسلحة النووية التقليدية، إلا أنه يبدو أنه يستخدم التهديد بحدوث كارثة إشعاعية في محطة زابوروجيا للطاقة النووية في جنوب أوكرانيا كشكل آخر من أشكال قعقعة السيوف النووية.
سلاح الطاقة.. الشتاء قادم
ربما يكون أفضل خيار لبوتين هو كسب الوقت والاعتماد على تغير الطقس، فأوكرانيا ليست وحدها التي تواجه ضغوط الطاقة من روسيا، حيث تشكل تكاليف المعيشة المتصاعدة اختبارًا لدعم أوروبا لكييف.
قد يكون هذا الشكل من الحرب الهجينة أحد أفضل الأدوات المتبقية تحت تصرف بوتين ، بهدف زيادة الضغط السياسي الخارجي على أوكرانيا للموافقة على شروط غير مواتية بينما يتجه نصف الكرة الشمالي نحو شتاء بارد ومكلف.
ومن المتوقع فرار موجة جديدة من اللاجئين الأوكرانيين إلى دول أوروبا المجاورة، هربًا من برد الشتاء الذي تفاقم بسبب القصف الروسي لمحطات الطاقة، وهو ما حذر منه المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو جراندي منذ شهور.
ويبدو أن أوكرانيا وشركائها الغربيين سوف يحتاجون إلى تحقيق اختراق عسكري كبير على الأرض قبل انخفاض درجة الحرارة في الشتاء، وتجمد الجليد والثلج في ساحة المعركة مرة أخرى.