الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

وسط البلد

نهال علام
نهال علام

أحلام الصِغر لا يُعول على نقائها أمراً، ولا يضاهي بقاؤها كذكرى عطرة طوال سنوات العمر شيئاً، بسيطة كغنوة في مطالع النهار، رقيقة كالسكر عند ذوبانه على همسات البخار، دقيقة كعملية حساب الرياح في أعماق البحار، حلوة بعكس مرارة العلقم في لحظات الشجار.

قال سقراط تحدث حتى أراك، ولكن لم يذكر فيما يجب أن تبحر أشرعة الكلمات، وهذا يكفل لي حرية اختيار الموضوعات التى أقرر بها كيف أراك!
يا عزيزي ببساطة حدثني عن أحلامِك حتى ألقاك، فإذا كان ما تحققه هو حصاد سعيك، فما لم تدركه هو صحيح قلبك، فربما ما انجزته قبيل صدفة أو وليد حظ وقد يكون رفيق فرصة!

أما أن يظل حلمك حبيس صدرك فذلك يعنى إخلاص حدسك، وليست كل الأحلام منيعة، فبعضها لم يخضع للظروف الشنيعة، واستطاع بعضها أن يتسلل لأرض الحقيقة كالقطة الوديعة، تشبه تلك الطفلة الصغيرة ذات الجدائل الطويلة والعيون الذكية الكحيلة، التى ايقظتها أمها ذات يوم وهى تمسك بيدها فستاناً قصيراً ذو فراشات ملونة تكاد تتشابه ألوانها مع ذلك الشغف في عينيها، فقوس قزح سبع ألوان وذلك يوم من الأيام التى لن تسلاها لأنها رأت الحياة بآلاف الألوان!

كان يوماً ربيعياً بامتياز ولكن ذلك لم يثنيها عن اعتمار القبعة لتسكتمل أجواء الأبهة التى استشعرت الصغيرة أنها بلا شك ستلقاها وهاهى على المحك لاستقبالها، لا يفصلها إلا ارتداء اقراطها والافراط في وضع عطرها، وتكون على أهبة الاستعداد لذلك اللقاء الذى سيجمعها بروائح الأجداد، وربما ستتعثر في طيف أحدهم أو تحظى بقبلة على جبينها من روح بعضهم.

احتضننت كف أمها وحاولت أن تبقى عيناً على أختها الصغيرة ذات الحركة الكثيرة بالرغم من سنوات عمرها القليلة، ركبت السيارة وعَلَقَت روحها في وجوه المارة، وتعلقَت تلابيبها في تفاصيل العِمارة التى تزين كل عمارة موجودة في ذلك المكان الذي يبتعد عن مسكنها بعض كيلومترات ونصف ساعة ولكنه بمثابة عودة بزمن لم تعيشه ولا توقن في الأصل حقيقة وجوده، فهى لم تكن بعد صبية مجرد طفلة شقية لم تلتحق بعد بالمرحلة الابتدائية، ولكن بلاشك كانت تملك روحاً استثنائية تسبق سنوات عمرها بسنين ضوئية، فما شأنها هى وتلك الكلمات المسطورة على يافطات المكان فبدت مسحورة!

توقفت السيارة عند مدخل فسيح على يمين الشارع، ظنته في بداية الأمر حديقة في وسط البنايات العتيقة، ولكن لم يكن ذلك إلا ما وصفته والدتها بمحل جروبي، انبهرت الصغيرة بتفاصيل المكان، فشبهت المسكينة  بحديقة قصر أميرة الزمان في حكايات ألف ليلة وليلة، وذلك ليس لضخامتها ولكن للغموض الكامن بين جنباتها والسحر الذى تشى به أروقتها، وأثار أطياف أرواح البشر العالقة في جنباتها، فتلك الضحكة الخافتة وذلك الوقار الظاهر، وتلك الفتاة المتلفتة، وذلك الشاب الذي عوج طربوشه فظن الحضور ان ذلك دليل على اعوجاج خُلقه، بعض مما رأت الصغيرة ممزوجة بأثار حبر الطباعة العالقة في ستائر الزمن الخفية، وربما لم يراها أحد في ذلك اليوم غيرها هى، وعزت الأمر للمنشورات الثورية التى تسلم بين أروقة المكان المخفية لشباب الحركة الوطنية، لتحرير مصر من السيطرة الإنجليزية.

ولا تندهش من خيال الطفلة الذى غزل كل مشاهده من الأفلام القديمة، فترائت لها الأحداث وكأنها تجرى على جدارى المكان والحقيقة!
وبعد مدة لا تذكرها بطريقة دقيقة، جاء نادل يرتدى بنطلوناً فضفاضاً وطربوشاً براقاً وسترة قصيرة وشغفاً عظيماً وصينية كبيرة عليها صنوفاً عديدة، الكرواسون الدافئ وعصير الليمون البارد والقهوة السادة التى وقعت في عشقها في هذه اللحظة الأثيرة، فظلت رائحة القهوة وصورة والدتها وهى ترتشفها على مهل مبهج طى أحلامها العنيدة التى ما حققتها الحياة بعد كل تلك السنوات الطويلة، حتى في التجارب المشابهة بشانتييه مصر الجديدة جائت القهوة ولكن لحظة البهجة لم تكن كما كانت تلك اللحظة البعيدة.

جاكومبي جروبي صانع الحلويات السويسري وصل مصر في القرن الـ18 عمل لدى أقاربه من عائلة جيانو، وهو في سن 26 سنة وبالتحديد سنة 1890 اشترى أول محل له في الإسكندرية، وبعدها بدء افتتاح سلسلة “جروبي” الشهيرة، ولكن حنينه لبلده كان قوياً فعاد  إليها بعد أن كون ثروة كبيرة وخاصة بعد بيع أشهر محل حلويات في الإسكندرية في ذلك الوقت، في سويسرا خسر كل ثروته، فقرر جاكومبي يعود مرة أخرى ويعيد افتتاح سلسلة جروبي من جديد في القاهرة سنة 1902، ولا شك أن هذا الرجل كان عبقرياً فعاشت وصفاته عمراً جلياً فطفلتنا لم تنسى (البانانا بوت) وهى عبارة عن الآيس كريم المزين بقطع الموز والمربى، وجاتوه الإكلير وتورتة عيد ميلادها البلاك فورست التى أصرت على شرائها من ذلك المكان بعد مضى العديد من الشهور والأيام.

وبعد عدة سنوات عندما فوجئت بالعديد من النادلين يملأون منزل جدها القديم ويحملون ذلك الشعار السعيد لعلامة جروبى مطرزاً على ستراتهم، لم تفهم من الذي فتح بوابات الفرح وعَبَدَ بها طرق الترح! فتلك مراسم العزاء الخاصة بجدها وهم المعنيون بالقيام بواجب ضيافة المعزين، إذا ذلك سبب يبدو مقنعاً، أن تهدى جدها بعض الكرم المستحق في ليلته الأولى في ذلك اللحد، بأن يُكرم ضيوفه الذين اجتمعوا على احترامه وجاءوا لتقديم قرابين المحبة في ليلة الاجتماع الأخيرة على شرف اسمه الذى ستطويه صفحة الليل وإن خلدته ذكراه الطيبة.


كل تلك الذكريات هى موجة في بحر الأحداث التى مرّ بها ذلك المكان، الذي يشغل حيزاً لا يزيد عن نقطة في أطلس منطقة وسط البلد، التى لم تخلو منها ذاكرة بنت ولا ولد، ولا تخطئ عين  الجهود المبذولة للحفاظ على هويتها التاريخية، وانتشالها من عبث العشوائية وعودتها لمكانتها التى تستحقها في وسط الدول العالمية، فإذا ذهبت لأى دولة أوروبية ستشعر بالألفة في منطقة وسط البلد الخاصة بها، فتلك المنطقة في كل بلد تحمل التاريخ والحكايات عما مرت به تلك البلد، ولوهلة في المدن القديمة كباريس الفرنسية وفرانكفورت الألمانية وماستريخت الهولندية تشعر وكأنك في القاهرة المصرية.

ولتكتمل أجمل فصول الحكاية فامتدت يد التطوير لفندق جراند كونتينتال الذى استضاف الكثير من رؤساء وملوك العالم، ولكن هناك لمحة تنقص المكان وهى الهوية البصرية، فلازالت يافطات المحال كطبق السلطة الملخبطة، حروفها اللاتينية أو العربية لا تعبر عن روح المدينة، فحرية الأسم مكفولة لصاحب المحل ولكن الاحتفاظ بالهوية التاريخية حق لرواد المكان، لذا اتمنى لتلك المجهودات العظيمة أن تكلل بتلك اللفتة البسيطة، لتصبح عنواناً لأروقة المكان العريقة.

وإذا كانت لدى أمنية أخرى وهى أن تمتد يد التطوير للمعبد اليهودى أو كُنيس عدلى نسبة للشارع الذى يقع به، ليعود لمكانته التراثية التى يستحقها كأثر ونستحقها كبشر تعود جذورهم التاريخية لكل ما يُعلى كلمة الإنسانية، فنحن الحضارة التى تحترم الديانات ومن أرضنا خرج مفهوم الكوزموبوليتان، وتمتد جذور امنياتى أيضاً لأن تكون تكلفة تطوير وتجديد المعبد أو بوابات السماء كما اطلق عليه اليهود قديماً بالتبرعات الأهلية، لتكون فرصة أن نبرهن للعالم أن المصرى الحقيقي هو المتقبل للاختلاف والمتسامح مع كل المعتقدات والداعم لتاريخه والمعتز بتراثه، ولا يشغلنى حجم التبرعات ولكن الرهان على عدد المشاركين بها، فذلك الدليل السلمى الصامت الناطق بالحق يثبت أن تلك الشرذمة التى تنبذ الاختلاف وتدعو للخلاف في منصات التواصل الاجتماعي ماهى إلا قلة لا تعبر عن وعى الأمة.

فمصر هى تلك الحلوة التى تجوب وسط البلد، وتدافع عن أطرافها، وتحمى وسطيتها، وتخشع لصوت الأذان وتطرب لأجراس الكنائس، وملامحها على جدران المعابد، وعبيرها في رائحة خبيزها، وصوتها في خشخشة حقولها، إنها مصر يا سادة التى ستبقى أجمل الأحلام أن تحيا بهية وصبية وقد الدنيا، طالما لازال هناك دنيا.