كشف الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عن المراد بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ".
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
ولفت جمعة في بيانه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } , إذا نظرت (لغدٍ) فإنك سوف تحاسب نفسك: ما الذي قدمته لله ؟ عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: (ما قَدَّمْتَ لَها؟) ...؛ إذًا هناك محاسبة.
وتابع: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ} النظر هو حقيقة المحاسبة { نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } كيف تعود إلى ربك؟ يقول أهل الله من السادة الصوفية : "مِلاكُ الأمر كله أن تُجَهِّزَ حُجَّتَك لله غدا" فالناس يسألون أهل الله ويقولون : لا نريد أوامر كثيرة؛ صلِّ وصُمْ واذكر واتلُ واعمل, نحن نريد مفاتيح نسير عليها قالوا : هذه المفاتيح تتمثل في أنك كلما تُقْدِمُ على عمل تُفَكِّرُ: ماذا ستقول لله تعالى غدا ؟ فإذا كنت مؤمنا بالله تعالى ، ومؤمنا بأن هناك يوما آخر، ومؤمنا أن في هذا اليوم الآخر حساب وثواب وعقاب، فإنك سوف تحاسب نفسك قبل العمل وتنظر إذا ما كان هذا يُرضي الله أم لا يرضيه .
حرية العقيدة في قصص الأنبياء
وبين علي جمعة أنه استفدنا من قصص الأنبياء حرية العقيدة، واستفدنا منها أيضا وجوب البيان، وقد يحتاج هذا الأمر إلى مزيد تفصيل؛ لأن كثيرا من الناس يعتقد أن هذه الحالة وهي مخالطة المؤمنين للحياة إنما هو نوع من أنواع النفاق، وهذا الاعتقاد في ذاته بداية جيدة لفكر الإرهاب، وهو ما نرى العلماء يقلون ضده ويبينون خلافه.
وأكمل علي جمعة انظر إلى نوح -عليه السلام- حيث يقص الله عنه، فيقول:
1- (وَيَصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود:38] ومعنى هذا أنه كان في مجتمعه يمارس حياته بأسلوبه الذي آمن به، وأن علية القوم لم يكونوا راضيين بذلك، وأنهم استهزءوا به وسخروا منه، ولم يؤد ذلك الخلاف في العقيدة إلى صدام في الحياة، بل إنه أخذ صورة الاعتراض ورد الاستهزاء بشيء من الاستهزاء، ورحل أمر الحساب إلى اليوم الآخر حتى يستقيم الاجتماع البشري، ولو كان هناك اختلاف بين الناس في العقائد وفي الرؤى، ولو كان ذلك هو نوح، وهو من أولي العزم من الرسل، ولذلك يقول بعدها: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) [هود:39].
2- وتبين بعد ذلك أنه كان يعيش في أسرة لم تؤمن فيها زوجته ولم يؤمن فيها ابنه، وإذا كانت الزوجة واردة عليه في كبرها، فإن ابنه الذي رباه وكان تحت رعايته منذ ولادته يدل دلالة واضحة على ما نريد أن نشير إليه وأن ننبه عليه من حرية العقيدة، ومن أنها شخصية تتعلق أساسًا بهداية الله.
3-ولقد كان نوح -عليه السلام- يحب أهله، وكان قد منع شرعًا من الدعاء لزوجته الكافرة، فقال تعالى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) [هود:40] ولما جاء الطوفان دعا ربه من أجل ابنه وقال: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ) [هود:45] إنه الشعور الطبعي بين الوالد وولده حتى ولو كان عاصيا أو كافرًا، ولم يكن نوح -عليه السلام- يجهل كفر ابنه ولا عصيانه، ولكنه يحاول في حدود المسموح له في الشريعة، وكان الرد عليه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ) [هود:46] وهنا يلتزم نوح -عليه السلام- بالشريعة بالرغم مما ألم به من الألم على ابنه، وعلى مقاومة نفسه وكبح ما تدعوه إليه فطرته التي فطر الناس جميعا عليها من حب الولد، ولكن الشريعة جعلته يقول: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ) [هود:47].
4- إن دراسة قصص الأنبياء -وهي كثيرة- بما نحاول أن نكشف عنه هنا، وتدبر ما في القرآن كله بهذا الشأن يبين لنا ملامح التعايش، ويكشف لنا عن صدق مقولة العلماء، وحكمة منهجهم في مقابلة هشاشة فكر التطرف والإرهاب، وفي مقابلة -أيضا- هشاشة موقف العلمانيين من الدين، وهذا كله واضح في التجربة المصرية.
وشدد: يحلو لبعض الناس عن طريق استخدام قضية النسخ أن يلغي كل هداية قصص الأنبياء، بل أن يلغي كثيرًا من أحكام القرآن الكريم وهدايته، ولقد أثر ذلك تأثيرًا كبيرًا في قضايا مهمة تحتاج إلى مراجعة، وسنفرد لها أيضا مناقشات فيما بعد. وهذا المعنى -معنى الحياة والعقيدة- موجود أيضا في شريعة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فلو تأملنا آخر سورة المطففين، والله يتكلم عن جماعة من المجرمين يسخرون ويستهزءون بالدين، لوجدنا نفس المعنى، وهو ترحيل الأمر إلى الآخرة، مع النشاط الاجتماعي، والمحاورة، والجوار، ووصف الأمور بأوصافها الصحيحة، يقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ* فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين:29-36].
واختتم قائلا: “التعايش له معالم أخرى يحتاج إلى عمل ميثاق شرف يعمل به قد يؤخذ من التجربة المصرية التي يجب أن نتوقف عندها حتى ندرسها كنموذج لهذا التعايش”.