لئن جاز وصف حوادث مصرع أو اغتيال السياسيين والمشاهير في العالم بـ "الصدمة"، فالوصف الأكثر دقة لحادث مصرع الأميرة ديانا زوجة الأمير تشارلز نجل ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية هو "الصدمة المأساوية"، ذلك أن وجه الأميرة ديانا الملائكي لم يكن قد ترك قلبًا على وجه الأرض تقريبا إلا وغزاه بحسنه ورقته اللذين تبين فيما بعد أنهما يخفيان قدرًا هائلًا من الأسى.
الأميرة ديانا ملكة القلوب بشهادة الموت
الأميرة ديانا، الفاتنة التي راقب العالم رحلتها من مدرسة مراهقة خجولة في دار حضانة إلى زوجة ولي عهد المملكة الأعرق في العالم، بما رتبه ذلك من مسؤوليات وأدوار، وإن كانت شرفية وأدبية في معظمها، كانت خسارة فادحة لقلوب مليارات المحبين في أنحاء العالم حين لقيت مصرعها ولم تكن قد اجتازت عتبة الشباب بعد، في حادث أليم وغامض معًا، لم تتكشف تفاصيله الكاملة بعد.
يقول المؤرخ إد أوينز لوكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية "أعتقد أننا بحاجة إلى تذكير أنفسنا بأن الأميرة ديانا كانت الشخصية الأكثر تألقًا وشعبية في العالم الناطق بالإنجليزية، أكثر حتى من الملكة إليزابيث الثانية نفسها، وبالنظر إلى تلك الشخصية اللامعة التي بنتها، فإن موتها في مثل تلك الظروف المأساوية والسن الصغيرة كان صدمة كبيرة للكثيرين".
يمكن القول إن الأميرة ديانا، ومن خلال تمردها على التقاليد العتيقة للبلاط الملكي البريطاني، تركت بصمة تغيير عميقة على العائلة الملكية، وساعدت على تجسير الفجوة الواسعة بين تقاليد عمرها مئات السنين وأمة حديثة متعددة الثقافات في عصر الإنترنت.
كان عزاء الأميرة ديانا كاشفًا عن مدى حب الجماهير الذين لم ترها أغلبيتهم الساحقة رأي العين، بقدر ما كان كاشفًا عن حجم الأسى الذي خلفه مصرعها في قلوب محبيها، ويكفي استعادة مشهد تدفق الجماهير الباكية إلى قصر كينزنجتون لتقديم العزاء، لإدراك مدى ما حظيت به من حب لم تحظ بمثله العائلة الملكية رغم شعبيتها.
الأميرة ديانا .. حيوية الصبا تنطفئ على عتبة القصر الملكي
على أن سيرة الأميرة ديانا في سنوات صباها ومراهقتها لم تكن لتنبئ على الإطلاق بأنها ستكون يومًا أميرة لواحدة من أعرق العائلات الملكية في تاريخ العالم، وكذا لم ينبئ زواجها الهادئ من الأمير تشارلز بأنها ستنتفض يومًا متمردة على البلاط وقيوده وتقاليده العتيدة.
في كل مكان ظهرت به ديانا المراهقة الخجولة، سلسلة عائلة سبنسر الأرستقراطية، سحرت الأنظار وخلبت الألباب بحسنها الطاغي المتناغم والمتناقض في آن مع بساطتها وتلقائيتها، حتى عندما بدأت تظهر مع خطيبها الأمير تشارلز وقد قصرت شعرها لتبدو أشبه بصبي مليح الوجه، تشي التماعة عينيه برغبة جامحة ومكبوحة في اللهو البريء وارتشاف مسرات الطفولة حتى الثمالة.
ما إن أنهت الصبية ديانا دراستها في عمر 16 عامًا حتى قضت بعض الوقت في مدرسة عليا في أحضان جبال الألب بسويسرا، ثم بدأت حياتها المهنية كمربية ومدرسة في دار حضانة للأطفال بالعاصمة البريطانية لندن.
وفي اللحظات التي قطعت فيها ممشى كاتدرائية سان بول بينما ترفل في فستان بالغ الأناقة من الدانتيلا، ويكاد حفيف ذيله البالغ طوله 25 قدمًا يُسمع في أنحاء العالم، تحولت الأميرة ديانا من شخصية عادية إلى أيقونة نادرة المثال للجمال والأناقة، كان ذاك يوم زفافها على الأمير تشارلز في 29 يوليو 1981.
الأميرة ديانا ضحية الأضواء
منذ ذلك اليوم، لم ينقطع الصحفيون والمصورون عن ملاحقة الأميرة ديانا أينما ذهبت، أما هي فقد ضاق صدرها بفضول المتطفلين، وإن سرعان ما تعلمت درس الإعلام وأدركت أنه أداة يمكن استغلالها لنشر الوعي ولفت الانتباه إلى قضايا بعينها، وتغيير نظرة الجماهير إلى أمور كانت تعد من المسلّمات.
تركت الأميرة ديانا أول ما تركت من بصماتها على الحياة العامة، عندما افتتحت أول مصحة في المملكة المتحدة متخصصة في علاج مرضى الإيدز في 9 أبريل 1987.
ولئن كانت مراسم التدشين وقص أشرطة الافتتاح حدثًا بروتوكوليًا معتادًا في حياة أي شخصية ملكية، فإن الأميرة ديانا حولت افتتاح مصحة الإيدز إلى درس مؤثر، فما إن وصلت إلى المكان حتى صافحت كف مريض صغير السن، لتبرهن بشجاعة على أن المرض القاتل لا تنتقل عدواه باللمس، ولتساعد على محاربة الخوف المبالغ فيه من الاقتراب من مرضاه ووصمهم أخلاقيًا بقسوة.
بعد سنوات عشر على هذا المشهد المؤثر، كانت الأميرة ديانا قد أصبحت خبيرة في استغلال الإعلام، وقبل مصرعها بسبعة أشهر، ظهرت مرتدية سترة وقناعًا واقيين وتخطو في ممر مطهر من الألغام في أنجولا، لتشيد بعمل مجموعة "هالو تراست" التي تكرس جهودها لإزالة الألغام من مناطق الصراعات السابقة، وعندما انتبهت الأميرة ديانا إلى أن بعض المصورين فاتهم التقاط مشهد عبورها فوق الممر المطهر استدارت عائدة إلى نقطة البداية وبدأت المشي من جديد.
ساهمت تلك الحملة في لفت أنظار المجتمع الدولي إلى ضرورة تخليص العالم من أخطار الألغام المدفونة تحت الأرض في مناطق الصراعات، واليوم باتت هناك معاهدة تمنع استخدام الألغام الأرضية وقعت عليها 164 دولة.
على أن الأميرة ديانا دفعت ثمنًا فادحًا لظهورها الإعلامي، إذ تفسخت حياتها الزوجية وراح الأمير تشارلز يولي اهتمامًا أكبر لعشيقته كاميلا باركر، وسقطت الأميرة الجميلة فريسة اكتئاب حاد كان من بين أعراضه الشره المرضي للطعام ومحاولات الانتحار.
في الفيلم الوثائقي "ديانا: قصتها الحقيقية بلسانها" المنشور عام 1992، تقول الأميرة ديانا "عندما بدأت حياتي العامة قبل 12 عامًا، اعتقدت أن الإعلام سيهتم بما أفعل، لكنني لم أدرك كم سيكون ذلك الاهتمام طاغيًا، ولم أدرك كم سيؤثر على واجباتي العامة وحياتي الشخصية إلى حد يصعب احتماله".
الأميرة ديانا .. وقائع موت مؤلم وحزن جارف
في نهاية المطاف، أهلكت الأضواء الأميرة ديانا. في 30 أغسطس 1997، احتشد عدد من المصورين الصحفيين المغامرين "الباباراتزي" أمام فندق ريتز في العاصمة الفرنسية باريس، آملين في التقاط صور للأميرة ديانا وصديقها عماد الفايد (دودي)، وطاردوا سيارتهما عبر نفق بون دي لالما، وفي النفق فقد سائق السيارة السيطرة عليها، فاصطدمت بأحد الأعمدة وتحطمت، وفي اليوم التالي فارقت الأميرة ديانا الحياة.
أدمت الفاجعة قلوب الملايين، إن لم يكن المليارات، داخل بريطانيا وخارجها، وفي يوم العزاء غطت باقات الورود وبطاقات العزاء أرضية قصر كينزنجتون حيث كانت تقيم في سنوات حياتها الملكية، واصطف عدد هائل من المواطنين دامعي الأعين في الشوارع المحيطة بكنيسة ويستمنستر آبي حيث أقيمت جنازتها.
وفي مشهد مناقض تمامًا لعواطف الجماهير الحارة، سيطرت حالة من البرود وقدر من اللامبالاة على ردود أفعال أفراد العائلة الملكية، ولوحظ عزوفهم عن الظهور الإعلامي، بل وتنبه البعض إلى بقاء علم البلاد مرفوعًا فوق قصر باكنجهام دون تنكيسه على سبيل الحداد.
هل انتقمت الأميرة ديانا من العائلة الملكية بعد موتها؟
دفع هذا المشهد المتناقض إلى اهتمام عام استثنائي بشخصيات العائلة الملكية، وتقول المؤرخة سالي بيديل سميث، مؤلفة كتاب "ديانا باحثة عن نفسها": "أعتقد أن إرث الأميرة ديانا كان شيئًا سعت الملكة بحكمتها للتكيف معه خلال السنوات الأولى التي أعقبت موتها، أصبحت الملكة أكثر استعدادًا للتفاعل مع الجماهير، وأصبح أفراد العائلة الملكية أكثر ميلا للتخفف من القيود البروتوكولية الصارمة، لا سيما الأمير ويليام وزوجته كيت ميدلتون".
وعلى سبيل المثال، أصبح الأمير ويليام وزوجته كيت ناشطين في مجال تحسين خدمات الصحة النفسية، فيما تبنى الأمير هاري الدفاع عن حقوق المحاربين القدامى.
أما ترميم سمعة الأمير تشارلز فقد تأجل إلى أن يخفت السخط العام على معاملته المهينة للأميرة ديانا، وساعد زواجه عام 2005 من عشيقته كاميلا بعض الشيء في تحسين صورته، وفي وقت سابق من هذا العام، قالت الملكة إليزابيث إنها كانت تأمل أن تصبح كاميلا ملكة قرينة عندما يعتلي الأمير تشارلز العرش.
وفي أحد لقاءاتها الصحفية، قالت الممثلة الأمريكية ميجان ماركل زوجة الأمير هاري أنها شعرت بحياة القصور تقيدها وتخنقها، وذات مرة تساءل أحد أفراد العائلة الملكية عن لون البشرة المحتمل لمولودها الأول قبل ولادته، في إشارة إلى لون بشرتها المائل إلى السمرة بسبب أصلها العرقي المختلط.
الأميرة ديانا بدورها عانت أشد المعاناة من حياة القصور، وحكت بالتفصيل ما يثير ضيقها في لقاء مع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عام 1995 لا يزال يثير الجدل حتى الآن، وقد اضطرت "بي بي سي" للاعتذار العام الماضي بعدما كشف تحقيق أن مارتن بشير، الذي أجرى الحوار مع الأميرة ديانا، لجأ إلى "طرق ملتوية" لإجراء اللقاء".
ولاحقًا، قال شقيق الأميرة ديانا أن هذا اللقاء والطريقة التي جرى ترتيبه بها ساهما في موتها، إذ رفضت بعده تولي القصر مهمة حماية سلامتها بعدما انكشف أنها والأمير تشارلز شبه منفصلين.
وفي الختام، تبقى كلمات الأميرة ديانا التي يتردد صداها عبر السنين كاشفة عن عمق الجراح التي كانت تدمي قلبها بينما كانت أسيرة أحد أكثر البيوت الملكية عراقة في العالم "أود أن أكون ملكة القلوب وأن أسكن قلوب الناس، ولكنني لا أرى نفسي ملكة لهذي البلاد، ولا أعتقد أن الكثيرين سيحبون أن أكون الملكة".