باتت الأزمة السياسية في العراق من أكثر القضايا السياسية داخل بؤرة الاهتمام العالمي، حيث يتصدر زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الأنباء والتقارير عن بغداد، لكن هناك من لعب دورا كبيرا يبدو غامضا، ألا وهو المرجع الديني الشيعي كاظم الحائري.
بالعودة إلى شرارة انطلاق أحداث العنف الأخيرة في العراق، فقد اشتعلت الأمور بعد إعلان زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، اعتزال العمل السياسي، إثر بيان صدر عن المرجع الديني الشيعي كاظم الحائري، أعلن فيه بدوره اعتزال المرجعية.
وحسب تقرير هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، فإنه من غير المألوف أن تعلن مرجعية دينية شيعية اعتزالها أو استقالتها، إذ لم يشهد التاريخ الحديث خطوة مماثلة، كما يقول الباحث العراقي سجاد جياد، وهو زميل في "مؤسسة القرن" الأمريكية:"هناك مراجع قللوا حركتهم، أو علقوا إصدار أحكام شرعية، ولكن لم يسبق خلال السنوات الخمسين أو الستين الماضية أن سمعنا عن مرجع ينشر بياناً يعلن الاستقالة أو الاعتزال".
وأضاف التقرير أن بيان الحائري في 28 أغسطس، حمل عدداً من العلامات الفارقة، إذ عزا "عدم الاستمرار في التصدي للمرجعية للمرض والتقدم في العمر"، ودعا مقلديه إلى "إطاعة الوليّ السيد علي خامنئي (المرشد الإيراني)"، ووجه انتقاداً لمقتدى الصدر إذ وصفه بأنه "فاقد للاجتهاد"، وغير مؤهل للقيادة الدينية.
ما سر الاعتزال وضربة الصدر؟
نقلت "بي بي سي" عن الباحثة العراقية مارسين الشمري، وهي زميلة في "جامعة هارفارد - مبادرة الشرق الأوسط" قولها إنه "من غير العادي أن يعتزل مرجع لتقدمه بالسنّ، فالمرجع يكون في العادة شخصاً تقدّم به العمر، لكي يكون صاحب خبرة وحكمة، إذ يحتاج إلى سنوات للوصول إلى موقع الاجتهاد الذي يخوله جمع الأتباع، فتح مكاتب، ودعم طلاب. وفي العادة يكون للمرجع حاشية من أولاده أو من طلابه يتولون أمور مكتبه اليومية، فلا يحول التقدم بالسنّ دون متابعته مهامه، والمثال على ذلك المرجع الأعلى السيستاني الذي بلغ 93 عاماً، وما زال يقوم بدوره".
فيما وصف جياد بيان الحائري بأنه "ضربة لمقتدى الصدر، نظراً للعلاقة الشخصية بين الحائري ووالده المرجع محمد صادق الصدر الذي أوصى أتباعه بأنه، إن قتل، فعليهم أن يتبعوا كاظم الحائري، ووصفه بأنه الأعلم من بعده".
واغتيل الصدر الأب عام 1999 مع اثنين من أبنائه، وتولى الحائري المرجعية الدينية لأتباعه من بعده، ولم يتصدر مقتدى الصدر منذ دخوله العمل السياسي للعب دور المرجعية لأن الأمر يتطلب استيفاء عدد من الشروط العلمية والفقهية.
الحائري وخريطة المرجعيات الشيعية
قالت "بي بي سي" إنه لا يوجد هرميّة لدى القيادات الدينية الشيعية، إذ تعظم مكانة المرجع أو تصغر بحسب عدد أتباعه، وبحسب إنجازاته العلمية. وغالباً ما يكون المرجع أحد المتخرجين من الحوزة العلمية، في النجف العراقية أو قم الإيرانية، ومضى على دراسته فيها سنوات طويلة.
ويتصدى عالم الدين لدور المرجعية، عند ثبات تقدمه في المعرفة وقدرته على استنباط الأحكام الشرعية بشهادة زملائه، وذلك ما يجيز للملتزمين دينياً أن "يقلدونه"، أي أن يأخذوا مشورته في شؤون الدين والحياة.
ويوضح جياد أن المرجعية الدينية لا تحتاج إلى اتباع حكومة أو مؤسسات رسمية، وخلال ألف سنة كان لدى الشيعة أعداد كبيرة من المراجع، وربما يبرز خمسون أو ستون مرجعاً في السنة الواحدة، ولكن يكون لمعظمهم قلّة من المقلدين، فهناك مراجع محلية، إذ يمثلون مرجعية في بلدتهم التي يسكنون فيها، وهناك مراجع على مستوى العالم مثل السيستاني الذي يقلده أغلب الشيعة.
والأمر ينطبق على مكانة السيستاني أو خامنئي، حيث يتقدمان على الآخرين بالنظر إلى حجم الأتباع والمقلدين، حسب ما تقوله الشمري.
ومن المرجعيات الشيعية الكبرى على قيد الحياة السيستاني في النجف، وخامنئي في طهران، ووحيد الخراساني، وصادق الشيرازي، في قم. ومن المراجع المعاصرين الكبار الذين فارقوا الحياة، روح الله الخميني (1902-1989)، وأبو القاسم الخوئي (1899-1992)، ومحمد سعيد الحكيم (1936-2021)، ومحمد باقر الحكيم (1939-2003)، ومحمد حسين فضل الله (1935-2010)، ومحمد باقر الصدر (1935-1980)، ومحمد صادق الصدر (1943-1999).
مكانة الحائري في العراق؟
تربط كاظم الحائري علاقة تاريخية بالنشاط السياسي لآل الصدر، وهو من المراجع الشيعية التي هجّرتمن النجف إلى إيران، في نهاية السبعينيات.
ولد الحائري في كربلاء عام 1938، وله خمسة أشقاء، قتل اثنان منهم في سجون النظام البعثي، بحسب موقعه الرسمي.
وبحسب موقعه الرسمي، بدأ تعلم القراءة والكتابة والقرآن على يد والدته، ثم على يد والده، وأظهر نبوغاً، فبدأ في سن السابعة عشرة بحضور دروس الحوزة عند المرجع الشاهرودي.
لازم الحائري الشاهرودي لسنين طويلة، ثم التقى بمحمد باقر الصدر، فتتلمذ على يده، ما شكّل "نقلة في حياته العلمية، وكان يساعد الصدرفي تأليف كتاب 'الأسس المنطقية للاستقراء 'الذي يمثل القمة في البناء الهرمي لفكر أستاذه"، بحسب موقعه.
هاجر من النجف إلى قم في منتصف السبعينيات، ولعب دوراً بارزاً بالتدريس في حوزتها، وأسس مدرسة علمية تختص بتدريس الشباب العراقيين وسمّاها باسم أستاذه محمد باقر الصدر.
واكب الحائري تأسيس محمد باقر الصدر لـ"حزب الدعوة"، ونشاطه السياسي المؤثر على الساحة العراقية في الستينيات والسبعينيات. وخلال منفاه، كان فقيهاً لمناصري "حزب الدعوة" في سوريا وإيران، ولكنه "ترك العمل السياسي وتوجه للتدريس"، بحسب سجاد جياد.
وكان الحائري زميل دراسة محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، الذي رشحه لتولي المرجعية الفقهية من بعده، كما أشرنا.
وقال الصدر الأب في لقاء مسجل: "أنا أعتقد أنّ الأعلم على الإطلاق بعد زوالي من الساحة جناب آية الله العظمى السيّد كاظم الحائري".
وعرف الحائري بمعارضته لنظام صدام حسين، وبحسب موقعه الرسمي فقد "بذل جهده في دعم حركة الشعب العراقي ومجاهديه الأبرار بتوجيهاته وفتاواه الرشيدة، من خلال كتابه دليل المجاهد".
ومن مواقفه المثيرة للجدل بعد غزو العراق، إصداره بياناً دعا فيه إلى "إهدار دم رموز البعثيين في العراق"، كما وضع مقترحاً لدستور عراقي بعنوان "لبنة أولية مقترحة لدستور الجمهورية الإسلامية في العراق".
مرت العلاقة بين الحائري ومقتدى الصدر بعدد من المنعطفات، قبل وصولها إلى مرحلة اعتزال الحائري في بيانه الأخير، ما فسره مراقبون بأنه رفع للغطاء المرجعي عن الصدر.
وتقول مارسين الشمري إن "العلاقة بين الحائري والصدر كانت جيدة جداً في البداية، إذ درس الصدر على يده لفترة قصيرة في قم، لكنها ساءت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، إذ كان الحائري يرفض نشاط الصدر ضمن جيش المهدي، ودخوله القوي في معترك السياسة".
تدهورت العلاقة بين الاثنين بعد عام 2008، ووصلت حدّ القطيعة، بحسب سجاد جياد، "عندما انتقد الحائري اصطدام الصدر مع الدولة وحكومة المالكي".
تأثير اعتزال الحائري على التيار الصدري
صحيح أن العلاقة بين الصدر والحائري مقطوعة منذ سنوات، إلا أنه لا بد أن يكون قد تأثر ببيان الحائري الأخير، الذي تضمن هجوماً على معارفه الشرعية، وذلك بالرغم من أن الصدر لم يتصدّ يوماً لدور المرجعية.
تتفق مارسين الشمري وسجاد جياد على أن معظم من يقلدون الحائري بين أنصار الصدر، هم حالياً من الجيل القديم الذي عاصر الصدر الأب.
يقول جياد: " أغلب التيار الصدري شباب لا يعرفون السيد الحائري، ولا يقلدون أي مرجع لا السيستاني ولا غيره، ويتبعون مقتدى الصدر في كل أمورهم".
وترى الشمري أن دعوة الحائري لأتباعه لتقليد خامنئي، لن "تؤثر إلا بفئة قليلة من الملتزمين بالقواعد الشرعية، الذين سيأخذون كلامه بجدية، من جيل أتباع محمد صادق الصدر. أما أغلبية الصدريين من الشباب، فيتبنون نهجاً مناهضاً لإيران، ومن الصعب أن يقلدوا مرجعاً هو أيضاً سياسي إيراني".
وبرأيها، قد يترك اعتزال الحائري فراغاً مرجعياً في صفوف التيار الصدري، ولكنه "أمر متوقع، لأن تعلق الصدريين بأي مرجعية ضعيف، وتعلقهم بمقتدى الصدر أقوى".