الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نجيب الرواية العربية

منى أحمد
منى أحمد

آفة حارتنا النسيان هي الجملة التي اختتم بها الأديب العالمي نجيب محفوظ سطوره في روايته الأشهر أولاد حارتنا التي منحته جائزة نوبل في الأدب وكادت أن تودي بحياته. 

ففي عام 1959 انتهي من راويته أولاد حارتنا وبدأت صحيفة الأهرام في نشرها في سلاسل متتابعة ، لكن فجأة توقفت بعد اعتراض رجال الدين في ذلك الوقت فقد قُرأت وفُسرت رموزها وفق قواميسهم ومفرداتهم. 

وأُتهم محفوظ بالكفر والإلحاد رغم أن روايته كانت سردا إبداعيا لروايات معاصرة تحدث في الشارع المصري ، لكن الإيحاءات والرموز المستخدمة فُهمت أنها إسقاطات علي رموز دينية ومن هنا جاء الخلط بين الاستعارة والإساءة. 
بعد هذا المنع سرعان ما طارت الرواية إلي بيروت ، وطُبعت وتم تداولها علي نطاق واسع ودخلت مصر سرا رغم المنع بل وتُرجمت إلي عدة لغات وحظيت بشهرة عالمية كبيرة.

واستحضر محفوظ في رواية أولاد حارتنا فلسفة الماضي وأتي بها مسقطا إياها علي الحاضر، وتضم الرواية افتتاحية وخمس قصص فتحت باب الإسقاطات علي كل الاحتمالات ، وكل يريد الإيقاع بالكاتب الكبير وقتها وهو ما دفع خصوم كثر علي التحالف ضد محفوظ لمنع هذة الرواية وبالفعل ظلت الرواية حبيبة المنع حتي 2006. 

استطاعت أولاد حارتنا المثيرة للجدل والثلاثية أن تقتنص نوبل لنجيب محفوظ كأول روائي عربي ، يحصل علي هذة الجائزة الرفيعة في الأدب، وأيضا كادت أن تقتله عندما طعنه أحد شباب الجماعات المتطرفة بناء علي فتوي شيوخهم بإهدار دمه. 

استلهم نجيب محفوظ رواياته التي صُنفت ضمن الأدب الواقعي من الواقع المعاصر ، فقد أستوعب ملامح وتفاصيل الحياة في مصر ، وبرع في اختيار الشخصيات التي أتسمت بطابع فريد من نوعه لتعبر بواقعية عن الشخصية المصرية المتفردة والمتأثرة ببيتها ، فتشبع بالزمان والمكان ليعيد إنتاجه في نص أدبي يتضمن مستويين ، الأول واقعي والأخر فلسفي فنقل رواياته من مستوى الكتابة الإبداعية إلي الرؤية الأعمق.

وأصبحت الحارة المصرية مرتكزا لأعمال محفوظ الروائية والقصصية ، رصدا فيها الحراك والتحولات والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمتغيرات التي حدثت في مصر عبر أكثر من خمسون عاما ، فجاء إبداعه مكملا لحقبة تاريخية لا يمكن فهمهما فهما صحيحا بدون قراءة أدب نجيب محفوظ. 

ونجح أدب نجيب محفوظ بشخوصه وأفكاره وقوة مفرداته أن ينقل إبداعه من المحلية إلى العالمية ، عابرا فوق حدود الزمان والمكان فتحولت نماذجه الروائية إلى شخصيات عالمية. 

فمن الحارة وأزقتها انطلق محفوظ في تصوير النوازع الإنسانية وخفاياها النفسية الغامضة التي تعكس لغة واحدة ، هي لغة الإنسان الحائر أمام الوجودية والمصير برؤية فلسفية من خلال البحث وراء المعاني الكبري الكامنة ، وصياغتها في نصوص أدبية مبدعة متجاوزة الواقع المادي بمعاني لها دلالات وإيحاءات رمزية.

أضاف حسن استخدام محفوظ للسرد بآليات بلاغية رفيعة المستوي عبقرية أخري ، وجاء اختياره للألفاظ بمفردات ثرية سلسة معبرا عن كل طبقة من الطبقات اجتماعية ، فجاء إنتاجه الأدبي متنوعا تنوع واسع برؤي مختلفة تنوعت بين الواقعية والتعبيرية والرمزية. 

تميز أخر تفرد به السرد الروائي عند نجيب محفوظ وهو استحضار الصورة الذهنية ، فأستوعب التفاصيل الجغرافية وجعل القارئ يستحضر المكان والزمان في صفحات أدبه ، وكأنه يشاهده ويعيشه فقدم لنا وصفا دقيقا لأحياء القاهرة القديمة , فتعانق المكان الجغرافي بالبراح الإبداعي في رواياته التي جعلت للمكان دورا كبيرا في مسارات رحلته الإبداعية. 

نجيب محفوظ منارة تنويرية وهرم يضاف لأهرامات مصر الخالدة ، وسيبقي حاضرا بقوة في مسيرة الرواية العربية وفي الوجدان المصري والعربي بل وفي ذاكرة الأدب العالمي.