طرق ريفية ضيقة، منازل تبدو صغيرة، سلالم داخلية ملتوية، و نوافذ كبيرة .واجهات بيوت مزدانة بنباتات و شجيرات أمامية، و حدائق خلفية، بعضها يجلب النباتات و الورود من دول اخري، فلا عجب ان تشتهر هولندا بتصدير الورود و خاصة التيوليب.
قنوات و بحيرة عذبة، خلجان هادئة خلف تلال مصنوعة ، و مرافئ لسفن صيد ملونة و يخوت ،تحوم حولها دوريات طيور النورس، تقتنص الأسماك من مياه، لا تعوق برودتها عشاق الرياضات المائية، رسوبات رملية مد و جزر و رياح و تغير دائم، وشطئان رملية ممتدة تفصل بين البحر و فنادق و مقاهي لمحبي التنزه و التأمل ،و تمثل اطلالة بحرية لقري صغيرة جميلة مكتفية الخدمات ، يتجمع سكانها في أريحية وألفة و ود و بشر في أسواقها و مطاعمها و مناسباتها الثقافية و الترويحية و الدينية ان شاءوا رحلات قوارب عبر أقنية نهرية، لها ممشي و رواد، تحوطها زهور و أشجار زيزفون، تحكي بقصورها و زخارفها تاريخ بلد صغير، لكنه وفير الانتاج.
ريف دولة ثرية علي صغر مساحتها الاقل من ثلثي مساحة سيناء، ينتج الحبوب و البطاطس و البنجر و الورود، التي زرعوها و الخضروات في صوبات، و كذا الجبن و الزبد من ابقار مراعي الفريزيان الشهيرة. و رغم ان الزراعة تشكل اقل من ثلاثة بالمائة من الدخل القومي الا ان صادرات هولندا منها بلغت مائة مليار دولار سنويا، كثاني اكبر دولة مصدرة للانتاج الزراعي بعد الولايات المتحدة، فهم لا يتركون ارضا دون استغلالها ، و يستخدمون الاسمدة و الالات في المروج المستوية الممتدة بألوانها البهيجة المتقاطعة، و زهورها و ظلال أشجارها و تلالها، و رياحها الباردة و طواحينها، و ثلوجها و نجوم سمائها التي ألهمت رسامها الشهير ڤينسنت ڤان جوخ، فعبر بها عن تأملاته العميقة و مشاعره الدفينة.
رغم ماضيها الاستعماري شرقا و غربا و ارتباطه بقسوة استغلال عبيد المستعمرات ثم بالرواج الذي احدثته تجارة مواني هولندا مع دول الشمال و عبر نهر الراين مع المانيايرجع باحثون تقدم هولندا اساسا الي ما اسموه اخلاق العمل البروتستانتية الكالڤينية الشائعة في شمال غرب اوروبا و الولايات المتحدة و كندا و استراليا التي ربطت بين التدين و العمل الشاق و الانجاز و التفاني و المصداقية و الاخلاص و الانتاج و الادخار للاستثمار و الحرية لخدمة الفرد و المجتمع، و تعتبر النجاح المادي نعمة الهية و اختيارا مسبقا للخلاص، و هو ما ادي لتكوين مجتمعات رأسمالية تعتمد نظما ديمقراطية، حتي لو كانت كهولندا ملكية دستورية برلمانية، يمثل سكان المستعمرات السابقة و الدول الأوروبية الأخرى خمس تعداد السكان السبعة عشرة مليونا و الباقي غالبيتهم من أصل چرماني. هي تلك القيم التي جعلت السكان يروضون بصرامة و كفاح شاق الطبيعة بردم المستنقعات و البحر، لتمثل اكثر من ثلث أراضي هولندا و حمايتها بمنظومة من السدود و التلال الصناعية و القنوات و نظم ادارة و تصريف و ضخ المياه بمحطات بخارية و كهربائية؛ هي ايضا القيم التي شجعت الهولنديين علي الاستقلال من اسبانيا في القرن القرن السادس عشر و من خلال حرب الثمانين عاما، و علي تحدي عنف الرياح و قسوة البرد و ارتياد المحيطات و التجارة الدولية بشركاتهم، لتصل مستعمراتهم من الأمريكتين والكاريبي عبر جنوب افريقيا الي اندونيسيا، و علي ان تنهض رغم دمار الحرب العالمية الثانية و استقلال المستعمرات بتعليم جيد و نزعة للابتكار و الحس الجمالي المعتني بطبيعة، أحنوا عليها، و تفانوا في رعايتها، وافتتنوا بما اضافوه لجمالها رغم قسوتها عليهم ، و اصبحوا جماعة و أفرادا يشقون طرقها بدراجات تعبر عن حريتهم و ارادتهم، اعدادها اضعاف عدد السكان، الذين مازالوا يحتفظون بتعطش للحرية تصرفا و تعبيرا و بالتسامح و الصراحة و بقوة ارادة متقشفة، لم تفسدها حياة رغدة. فهولندا الان يعتمد حوالي ربع ناتجها علي الصناعة من صناعات غذائية وكيماوية وإليكترونية و معدنية و بترولية و آلات و سفن في مقابل ٧٣٪ علي الخدمات المالية و التجارة و النقل البحري و الصيد و سياحة ، و ميناء روتردام مازال هو الاكبر في أوروبا وبفارق كبير عن الموانئ التالية.
هولندا من عمل الهولنديين بردم المستنقعات و البحر و بالسيطرة علي الماء للتنمية والأمان بالسدود و التلال، فالماء صديقهم يحمون عذوبة بحيرته بمحطات ضخ و تصريف، و فيضانات الماضي انهوها بسدودهم و تلالهم، بعد ان دفعتهم للتجارة الخارجية، و الرياح عدو طوعوه بجسارتهم و بطواحينهم.
هناك من يظن ان تقدم دول كهولندا يرجع لماضيها الاستعماري، لكن هناك دول اخري اقل تقدما رغم انها استعمرت أراض أوسع مما فعلت هولندا، و هناك دول كانت متحضرة، فانفصل ماضيها عن حاضرها الأقل ازدهارا، و هناك دول مساحتها و مواردها اضعاف مما لدي هولندا ، و مازالت تعتمد علي تصدير مواردها الخام، فالعبرة اذن بنوعية المواطن المعاصر و تدريبه و قيمه الحاكمة و النظام المستقر، الذي يوفر امنه و حقوقه، و ينظم ممارسة حرياته، ويتيح افضل تنمية.