الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العلمين.. والجمهورية الجديدة

نهال علام
نهال علام

اعتدت أن أطوف على أجنحة السرد، اسألها أن تأخذني وفي تلك الدنيا الواسعة أسألها ألا تفلتني، حتى أرى بعيون الحروف واستمع بأذني الكلمات، أغمض عيني فتتشابك الصور المكتوبة اتلمسها حتى اتنفسها، أقرأ الجملة فتنعكس الصورة في مخيلتي فترسم طرباً أو صخباً في قلبي، وغضباً أو فرحاً في عقلي، وبين قصة أقرئها وكتاب يقرأني أجدني وفي تلك البقعة يرحل عني ما يلازمني من قلق ولا يعلق بي إلا الألق!

واعتقدت أن من يطوف داخل الحروف لا يضاهيه شغفاً إلا من يغوص داخل الصنوف من الصور وهي على تعددها بالألوف، ابحث ولا تبالى، ستجد ما تبحث عنه بالقدر الذي يبقيك مستيقظاً لليالي! وهذا ظني وإن كان بعض الظن إثم فلقد تيقنت إن بعد الظن أحياناً يكمُن أعظم إثم!

قالوا عنها المدينة الجديدة ولكن بعد أن رأيتها رؤي العين تيقنت أنها عروس الجمهورية الجديدة، التى تليق بمصر الجديدة التى وهبها الله الموقع الجغرافي الأثير فهى تطل على بحرين وتتمحور في نصف قارات العالم، فلا عجب أن تكون لديها تلك الشواطئ التي لا تُقدر بالذهب.

إنها مدينة العلمين التي بزغت من قلب الألغام وشقت الظلام وجعلت الأوهام واقعاً على شاطئ الأحلام، وتلك صدفة سعيدة حدثت في أجازة العيد التليدة، فلقد قررت أن أشق قلب الوقت بزيارة لتلك المدينة التي يفصلني عنها كيلوين من الأمتار وذاكرة عامرة بمقدار الأخطار التى ينطوى عليها ذلك المشوار في آخر مرة زرت هذا الطريق من سنوات قريبة، وكان قرارى وقتها بإن يذهب كل ما بعد حدود قرية مارينا إلى جحيم التجاهل فالعمر واحد والرب واحد ولكن المخاطرة على الطريق بصحبة الغاليين والمقربين لا تخضع للمجازفة، فكفى الله المؤمنين شر ظلمة الطريق ومطباته!

لكن بعد كل ما قرأت ورأيت وسمعت كان القرار، سأستجمع سعادتي وأعيد الكَرة ففيما يبدو أن الأمور أفضل في تلك المرة! وعلى سبيل المعرفة لا ضير أن يكون بعدها قراري بأنها آخر مرة،
أليست تلك التي يصفونها بأنها مدينة من مدن الجيل الرابع التى أصبح لها في قلب مصر مَرابِع؟ إذاً فلتحيا التجربة..

ففي الأول من مارس عام ٢٠١٨ أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قراراً جمهورياً بإنشاء مدينة العلمين،على مساحة ما يُقارب من الخمسين ألف فدان ومُخطط لها أن تستوعب٢ مليون نسمة للإقامة فيها،  تلك المدينة التي ما تخيلت أن تحمل بين طياتها كل هذا السحر، فليس الأمر هو روعة المعمار أو عبقرية البناء ولا حداثة الأساليب المستخدمة في الديكور والتصميم والتنظيم بل الأمر يتعدى ذلك فلتلك البقعة عبق من التاريخ يتسربل بين جنباتها فيمنح طيف لطيف، وزخات فرح على قلوب زائريها بشكل أليف.

المدينة مكونة من ثلاث شرائح إسكانية، شريحتين سياحيتين استثماريتين أحدهما تقع على ساحل البحر المتوسط وأخرى جنوب طريق اسكندرية مطروح الدولي أما الشريحة الثالثة فهي المنطقة التاريخية والأثرية بمقابر العلمين، وإن لم تكتمل الوحدات السكنية والتى تبدو من شواهدها أنها في مراحلها الأخيرة، لكن الجزء التجاري والسياحي بدأ في استقبال الجمهور في المطاعم والمول والممشى الذي تم افتتاحه جزئيا ليقدم متنفساً حضارياً لعشاق الماريا النازحون للبحث عن عبقرية الطبيعة الجغرافية، بعد سنوات من الإهمال العمراني والتجاهل التاريخي.

مدينة العلمين مدينة أثرية يعود تاريخها إلى العصر الروماني حيث عرفت باسم مدينة (ليوكاسبيس) التى دمرها تسونامي من الزلازل في عام ٣٥٦ ميلاديًا، وبسبب الاضطرابات في الإمبراطورية الرومانية لم يعاد تشييدها مرة ثانية، تميزت المدينة القديمة بوجود كاتدرائية رومانية وقاعة كبيرة تم تحويلها إلى كنيسة مثلت في ذلك الوقت مركزاً تجارياً بين مصر وليبيا والواردات الكريتية، وتم فقد أثر المدينة حتى عام ١٩٨٦ حين بدأت عمليات بناء الطرق في مارينا العلمين فتم العثور  على منازل ومقابر قديمة، وتم تصنيف ٢٠٠فدان من الأرض المحيطة كمنطقة أثرية، وبدأت عمليات التنقيب الفعلية عن الآثار في تلك المنطقة بفترة التسعينيات من القرن الماضي.

ومن تلك الحقبة التاريخية البعيدة للمدينة الرومانية المتهدمة ومروراً بالحربين العالمية الأولى والثانية حيث شهدت أحداث جلل في المعركتين، ظلّ التاريخ يقطن ساكناً بانتظار من يبعث فيه الحياة.

والجدير  بالذكر أن في مدينة سيدني الأسترالية شيدت نافورة العلمين كنصب تذكاري تخليداً لذكرى الجنود الذين لقوا حتفهم في عام ١٩٤٢ خلال الحرب العالمية الثانية التى دارت في تلك البقعة.

عظيمة أم الدنيا، لا يوجد شبر من أرضها لم يَمر من فوقه التاريخ، صنع أجدادنا تاريخ وحضارة واليوم نعيد التنقيب عن تلك الكنوز بجدارة، فإعمار مدينة العلمين هو الوجه الآخر لطريق الكباش وموكب المومياوات وغيرهم من إحياء الهوية المصرية ببصمة عصرية نموذجية، وذلك دور الدولة التى قامت به على الوجه الأكمل ويظل دور المواطن وهو المُستقبِل لتلك الإنجازات ومن واجبه وحق الأجيال القادمة الحفاظ عليها.

لنقدر الإنجاز ولنرى بعين الحقيقة ذلك الإعجاز فتلك الصحراء المُلغمة بتاريخها النابض، وقنابلها الفتاكة قد تلقت قُبلة الحياة لتصبح قِبلة استثمارية وسياحية واقتصادية على المستويين المحلي والعالمي، وذلك هو سبيل الجمهورية الجديدة التى تسعى لأجيال قادمة سعيدة، فطرت على أن الحياة منبثقة من وطن شعار أبنائه تحيا مصر الجديدة والعِرفان موصول لأجدادنا ولاد الأصول الملهمين أصحاب الأمجاد الخالدة العريقة، فميراثهم نعمة محققة واستغلالها والحفاظ عليها فضيلة موثقة.