الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

جاموسة في النيل

صدى البلد

الأخلاق ضمير الأمة ، وتقدم الأوطان مرتبط بتقدم الأذهان، وخريطة دول العالم المتقدم تكشف حقيقة ساطعة، بأن الجهل عندها غير موجود بالخدمة، فلم يحدث أن اجتمع التقدم والجهل فى دولة واحدة.

الحكاية ببساطة تتلخص في جاموسة ميتة تطفو على شاطئ نيل منطقة الزمالك العريقة، وأمام مشروع حضارى ممشى أهل مصر، لم أصدق ما رأيت وبحثت عن نظارتى الطبية، فربما يكون مرض التهيؤات قد أصابنى، لكنها كانت الصدمة المفجعة ، هى حقا جاموسة فى نيل الزمالك.

فتحت فمى من الدهشة وعبست ملامحى ،وتأذت مشاعرى من هول ما رأيت ،وسألت نفسى فى هيستيريا ، ما هذا بحق رب البيت،  وهل أنا  في منطقة الزمالك حقا  ، وهل سكان الحى الراقى فكروا فى استثمار آمن لأموالهم مع تداعيات الازمة الاقتصادية العالمية ، فكانت  تربيه البهائم  الحل.

الصورة المقززة  تحمل دلالات كثيرة وتناقضات كاشفة ،وإذا كان المثل العربي يقول وبضدها تتضح الأشياء ،فالتناقض كان كاشفا، بين دولة جديدة تبنى فى المحروسة من خلال الإستثمار فى  الحجر ، عبر شبكات طرق وإسكان وكبارى وتعليم  وصحة، ولعل مشروع ممشى أهل مصر أحد معالم الجمهورية الجديدة، وبين صورة تجرنا بقوة الى ذكريات دولة قديمة، ثرنا عليها وكفرنا بكل شعاراتها وخطاباتها ووعودها وخطايها وأخطائها.

..مشهد الجاموسة الملقاة فى النيل يكشف كارثة ليست جديدة وهى التعديات والجرائم التى ترتكب فى حق نيل قدسه القدماء ، وخلده الفراعنة بعروسة النيل ،وسطر له الشعراء  معلقات ،وشدى بجماله   أهل الطرب، وقيل عنه أحد أنهار الجنة،ومع ذلك ينتهك ويستباح شرفه وعرضه من جهلة لا يعرفون أن مياه النيل مقدسة.


الإنصاف يقتضى القول إن الدولة قامت بعمل نيولوك لشكل المحروسة، رافعة شعار الإستثمار في الحجر ،ويتبقى النيولوك  الأهم وهو نيولوك العقول.

الكثير من الحقائق المحزنة فرضتها واقعة الجاموسة وأهمها   أن أخلاق المصريين "بعافيه حبتين "  وهناك سنوات ضوئية  بين نهضة العمران ونهضة العقول.

الحقيقة الأخرى تتجسد فى سرطان اسمه الأمية ،الذى ينهش فى المحروسة منذ عقود ووصل إلى أرقام تقترب  من حجم دول.

المنطق يقول إنه لا تحضر بدون تعليم ولا تعليم بدون رغبة مجتمعية ، والدولة تبنت مشروعا قوميا لتطوير التعليم ليخاطب العقول ويخرج طالب فاهم وليس حافظا، فكانت المقاومة على أشدها من أصحاب المصلحة الأولى فى التطوير ، وهم أولياء الأمور، فضلا عن المنتفعين من صنم التعليم المتخلف الذى عشنا فى كنفه عقود ،وكان الحل فى السناتر وبيزنس الكتب الخارجية، والكل عينه على الدرجة وليس التعلم والفارق كبير ،  صحيح الإنسان عدو ما يجهل، لكن  الجهل وعدم الوعى لهما دور .

مشهد الجاموسة يكشف بوضوح أزمة  الوعى التى تجاهد الدولة فى مجابهتها ، والقياس على ذلك كثير في العديد من  المشكلات التي تعد بمثابة قنابل موقوتة ، ليس أولها كارثة الزيادة السكانية التى تلتهم كل ثمار التنمية، بسبب الفارق بين معدلات النمو الإقتصادي ومعدلات النمو السكاني،وهى  قضية قديمة ولم تحل بسبب الجهل  وعدم الفهم الصحيح لأمور الدين ، والإحصاءات تؤكد أن أكثر الفئات حرصا  على الإنجاب هى من الطبقات الدنيا والحجج كثيرة وموروثة.

صورة الجاموسة ليست بعيدة عن مشهد الإرهاب الذى يتغذى على الجهل ويتنفس  من الأمية لأن التعلم والوعى سلاحه الفتاك وليست المواجهة الأمنية فقط، وبالتالى سيظل يجد التربة الخصبة طالما استمر الجهل .

مشهد الجاموسة  لا يختلف كثيرا عن مشهد الانتخابات التى أوصلت البلاد إلى طريق مسدود،  ليس فقط فى السنوات القريبة الماضية، إنما من عقود مضت ، لأن الاغلبية وهى للأسف من البسطاء فى التعلم والوعى جروا وراء كرتونة السمنة وزجاجة الزيت وبعض الجنيهات ، وبالتالى قادت صناديق الإنتخابات ،وتراجعت فئة المثقفين، الآمر الذى يفتح الباب أمام سؤال شائك هل تنفع صناديق الإنتخابات فى بلاد تعانى من الجهل والأمية.

واقعة الجاموسة إفراز  طبيعي للمشهد الفنى العبثي والذى أنجب  أغانى المهرجانات وسينما البانجو والحشيش ،وأفرز نجوما متواضعين ثقافيا ، لهذا تراجعت السينما واحتضر الغناء ومات المسرح وتقدم السفه والتفاهات وغابت القضايا الجادة.

صورة الجاموسة نكشف لماذا هناك تحرش ولماذا هناك سرقة ولماذا هناك تعصب ولماذا هناك ثأر ولماذا هناك مستريح ولماذا ولماذا .

الدولة شيدت مشروعات عملاقة فى المدن الجديدة ومشروعات إسكان فاخرة ، وقضت على العشش وأسكنت مواطنيها مناطق راقية، فهل هؤلاء تركوا ثقافة العشوائيات وراءهم،  اعتقد الإجابة لا ومليون لا.

منظر الجاموسة فى نيل الزمالك يكشف أن قضية الوعى أخطر ما يواجه البلاد والعباد ، وأن الوعى بقضية مياه النيل غائبة عند الأكثرية من الشعب ، ولا أتحدث هنا  عن أزمة سد النهضة، بل عن معنى  الحفاظ على نعمة منحها لنا الله .

الواقع يقول إنه للأسف ثقافة العشوائيات باتت المسيطرة على كل شىء ، وتعد خطر على أمن المجتمع،  وتطبيق القانون أصبح أمرا لا جدال فيه، ومطلوب من الدولة مواجهة ثقافة العشوائيات التى تطل علينا بقبحها  يوميا.

مطلوب إظهار هيبة وعين الدولة القوية مع هؤلاء الشرذمة، الذين يجرون البلاد إلى ثقافة القبح فى كل شىء.

مطلوب محاكمة من يتعدى على النيل وتغليظ العقوبات على مصانع تصرف مخلفاتها فيه.

ثقافة العشوائيات أخطر من الفكر الإرهابى، لأنها ثقافة تسير  على قدمين ولا تختبئ وراء  الجبال وفى الجحور ، هى تسير بيننا وتنشر أفكار متخلفة بدون عقاب .
 

واقعة الجاموسة، تفرض سؤالا هل ما قاله أمير الشعراء احمد شوقي عن النيل  لا يزال حقيقة
النِّيلُ العَذْبُ هو الكوْثرْ والجنة ُ شاطئه الأخضرْ ريَّانُ الصَّفحة ِ والمنظرْ ما أبهى الخلدَ وما أنضرْ

التاريخ يقول إن الإله آمون كان يصرخ على لسان كهنته بان البلد الذى يفيض فيه النيل هو مصر وكل من يشرب منه مصرى ،فهل من يرتكب هذه  الجرائم فى حق النيل يستحق أن يكون مصريا .