الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في ذكرى رحيله.. لماذا رفض مصطفى صادق الرافعي التخلي عن ارتداء الطربوش؟|نوستالجيا

مصطفى صادق الرافعي
مصطفى صادق الرافعي

تمر اليوم ذكرى رحيل الكاتب والأديب مصطفى صادق الرافعي، والذي رحل عن عالمنا في 10 مايو 1937. دخل الرافعي الكثير من المعارك الفكرية بينه وبين مفكري جيله، إذ تشكلت آراء واتجاهات مختلفة ودارت أحاديث كثيرة حول هوية مصر في تلك الفترة، فتولدت تيارات عديدة منها التي رأت أن توجهنا ينبغي أن يكون قوميًا، معبرًا عن مصر الفرعونية فقط، ومنهم من رأى أن مصر هي دولة عربية وليست إسلامية، إذ رغبوا في الابتعاد عن ظل الدولة العثمانية التي تحكمت كثيرا في أقطار الوطن العربي باسم “الخلافة الإسلامية” ، ومع تولد هذه الاختلافات والرؤى المختلفة حول فكرة الهوية نشأت معارك أخرى إذ رفض البعض فكرة “الحداثة” ونقل مظاهر الحياة الاجتماعية الموجودة في الغرب إلى مصر، فظهرت تيارات تنادي بضرورة التخلي عن “الطربوش” واستبداله بالـ"قبعة" وهنا تولدت آراء رافضة لهذه الفكرة، كان على رأسهم الكاتب مصطفى صاق الرافعي، والذي هاجم محاولة استبدال الطربوش بالقبعة، وظهرا ذلك جليا من خلال مقاله في مجلة “الهلال” في يناير من سنة 1929 إذ كتب مقالا بعنوان  (الطربوش أم القبعة؟  لماذا أستمسك بالطربوش؟)، فقد رفض الرافعي الأمر كله، بل وقرر مهاجمة جميع من أيدوا فكرة التخلي عن “الطربوش”.

وإلى نص المقال الذي كتبه الرافعي :-

لا تسأل ما الطربوش ولكن من لابسه ولا ما القبعة ولكن من حاملها، فإنما القبعة والطربوش كلاهما كسائر العروض التجارية لا قيمة لكان ماكان منها إلا يمضي مالا ويخرج في صورة عمل لينقلب في صورة أجر كأن هذه الارض بما عليها قضية مانية عند منقطع كل استدلال من أدلتها برهان من الفضة أو الذهب.

فإن صاحب الحاجة أدرى بسداد حاجته ونحن نبتاع ما شئنا منذ أصبح العالم كله سوقة واحدة لا تنفك عروضها من سفر وتقلب الحربية الألمانية لأنه من ألمانيا وثيابي تكاد تستعمر جسمي، لأنها من انجلترا، ولكني عند الطربوش والقبعة أجد حداً تقف إليه ذاتيتي الفردية فلا أرى ثمة موضع انفراد ولكن موضع مشاكلة ولا أعرف صفة منفعة لي بل صفة حقيقة مني، ويعترضني من هناك المعنى الذي يصير به النوع إلى الجنس والواحد إلى الجماعة وأجدني من الأمة في مثل المنزلة التي يقرأ فيها العدد المجموع فلا يطلق عليه ما كان يسمى به وهو أرقام مفردة ويكون العدد مثلا من خمسة وأربعة وستة فيقرأ مجموعاً سمائة وخمسة وأربعين، وأنه لهو ذلك لولا منزلة الضم والاتصال وتكوين الجملة التي هي أصل في حساب الأجناس فالقبعة على رأس المصري منفرداً بها دون قومه باثناً من جملتهم، إنما هي مظهر من مظاهر التحلل الاجتماعي وارتكاس في منطق الجملة المصرية وإني لهذا الرقم من عبارة مجموعه بل هي في الرجال مشتقة من المصدر نفس المصدر الذي يخرج منه التهتك في النساء وكلاها منزع من المخالفة وكلاها ضد من صفة اجتماعية تقوم بها فضيلة شرقية عامة وإن كان فيها وراء ذلك ضرب.


حرية المنفعة

من القول في توجيه القبعة ومذهب من الرأي في الاحتجاج لها، غير أن المذاهب الفلسفية لا يعجزها أن تقيم لك البرهان جدلاً محضاً على أن حياء المرأة الفاضلة إن هو إلا رذيلة في الفن، وإن هو إلا مرض وضعف وكيت وكيت ثم تنتهي به الفلسفة إلى أن تجعله من البلاهة والغفلة وما الغفلة والبلاهة إلا أن تريد فلسفة من فلسفات الدنيا أن تفحم في کتاب الصلاة مثلا فصلا آخر.

لا يهولنك ما أقرر لك من أن القبعة على رأس المصري في مصر تهتك أخلاقي أو تهتك سياسي أو تهتك ديني، أو من هذه كلها معاً فإنك لتعلم أن الذين لبسوها لم يلبسوها إلا منذ قريب بعد أن تهتكت الأخلاق الشرقية الكريمة وتحللت أكثر عقدها وقاربت الحرية العصرية بين النقائض حتى كادت تختلط الحدود اللغوية، فحرية المنفعة مثلا تجعل الصادق والكاذب بمعنى واحد فلا يقال إلا أنه وجد منفعته فصدق ووجد منفعته فكذب وما فرق بين اللفظين وجعل لكل منها حداً محدوداً إلا جهل القدماء وفضيلة القدماء ودين القدماء وهذه الثلاثة: الجهل والفضيلة والدين هي أيضاً في المعجم اللغوي الفلسفي الجديد... مترادفات لمعنى واحد أزيلت الحدود بين المعاني كان طبيعياً أن يلتبس شيء بشيء وأن يحل معنى في موضع معنى وأصبح الباطل باطلاً بسبب وحقاً بسبب آخر ولم يعد يحكم الناس إلا مجموعة من الأخلاق المتنافرة تحمل كل حقيقة في الأرض شبهة مزورة عند من لا تكون من أهوائه ونزعاته واحتاج الناس بالضرورة إلى: قوة تفصل بينهم فصلا مساء تضطره أن يعد للوحشية الإنسانية وبدفع هذه الوحشية أن ترصد له وتترشح بجرائمها لاعتراضه وما القبعة على رأس الشرقي إلا حد طمس حداً وفكرة هزمت فكرة ورذيلة قالت لفضيلة - هأنا جئت فاذهبي.
 ومتی ما هو الاكبر من شيئين لا حد بينهما للصغر وما أصغر شيئين لا حد بينهما للكبر، إنها الفوضى كما ترى ما دام الحد لا موضع له في التمييز ولا مقر له في العرف ولا فصل به في العادة ومن هنا كان الدين عند قوم أكبر كلمات الإنسانية في كل لغاتها وأملها بالمعنى وكان عند آخرين أصغرها وأفرغها من المعنى وما كبر عند أولئك إلا من أنه يسع الاجتماع الإنساني وهو محدود بغاياته العليا، ولا صفر عند هؤلاء إلا بأن الاجتماع لا يسمه فلا حد له كأنه معنى متوهم لا وجود له الا في حروف كلمته،  فجماعة القبعة لا يرون لأنفسهم حداً يحدونها به من أخلاقنا أو ديننا أو شرقيتها وقد مرقوا من كل ذلك ولا أعرف أحداً منهم إلا علمته موضع قطع أو تمزيق في هـذا النسيج الشرقي الثمين. وأنت ترى منهم من أوفى على الخمسين من عمره ومنهم من جاوزها ومنهم دون ذلك على حين تاريخ القبعة فيهم لا يرجع الى أبعد من مدة القماط للطفل الرضيع في حول إلى حولين، أفليس لنا أن نسألهم أين كانوا من قبل وكيف ضاق بهم الطربوش بعد هذه السن؟ ولكن الطربوش لم يضق وإنما ضاقت العقول أو ضاقت الأخلاق وهذه الأمة منكوبة بالتقليد والمقلدين فهلا زيئًا مخترعاً أو إصلاحاً في زي معروف، فإذا كانوا عاجزين عنهما فهلا عقلوا سخافة هذا التقليد وشؤم هذه المتابعة.
يقولون أن الطربوش يوناني ونقول إنه يوناني معرب فهو في ألفاظ الحياة كألفاظ مثله في اللغة وقد أصبح رمزاً من رموزنا ففيه من ذلك قوة السر الخفي الذي يلهمنا ما أودعه التاريخ من قوميتنا ومعاني أسلافنا أو فيه سر القوة الخفية التي تجمعنا حول المعاني الاعتبارية برمز تتمثل فيه تمثل الوطن في الراية. وهو عندنا كالاصطلاح في الحفلة الرسمية على ثوب رسمي لا بد منه لكل من يحرضها ليتسق به نظامها شئت أم أبيت. وقد تقول أن في الشرق دروباً أخرى غير الطربوش كالعائم والقلانس فنقول لك أن الاصطلاح واقع عليها كذلك وهذا الاصطلاح عينه هو الذي ينفي القبعة ويلحق لابسها بالفئة الأجنبية.

 


دعوة فارغة

 




 أنا أعرف أن منا قوماً يرى أحدهم في ظن نفسه أنه قانون من قوانين التطور فهو فيما يلابسه لا ينظر إلى أنه واحد من الناس بل واحد من النواميس، وكأنها حادثة لها مادتها الفعالة فيريد أن يكون على ما تقتضيه تلك المادة الوهمية القائمة بنفسه، ومن هنا الثقل والدعوى الفارغة وما هو أكبر من الثقل وفراغ الدعوى فإنه لحق أن يكون بعض الناس أنبياء ولكن أقبح ما في الباطل أن يفان كل إنسان نفسه نبيا.
استمسك بالطربوش لأني أريد الدقة في التعبير الذي تعبر به نفسي حين تعان عن نسبتي وقوميتي فالطربوش وما في حكمه مما وقع الاصطلاح عليه إنما هو تدقيق في التعبير بالفكر وإخراج لهذا الفكر في أصدق ما يدل عليه وأصرح ما يؤديه. ثم إني مستيقن أن الأفكار الشرقية أو الإسلامية تحت القبعة هي غيرها تحت الطربوش لأن تغيير الرمز يتغير به ما كان يلهمه وهذا لا يكابر فيه أحد فقد عاد الأمر إلى صبغة نفسية كما ترى وأنت تعلم أن النفوس تضع من أحلامها في كل ما تلابسه حتى تصبغ كل جامد من المادة بأثر من آثارها كأن الإنسان لا يكون إنساناً إلا بتحويله كل ما حوله في ألوان إنسانية. والمدنية هي التي تزيد في هذه الأحلام وتنوع منها أنواعها ولولا ذلك ما كان للرءوس غطاء إلا ما غطاها الله به من هذا الشعر الكثيف المسترسل يضرب إلى المنكبين ويرد على الصدغين والعنق ويتم تمامه باللحية كشة مرسلة. وذلك أفضل الأغطية وأوفاها بالحاجة وأردها على الجسم بالصحة والعافية لولا النفس وأحلامها. فنحن من الطربوش أو القبعة بإزاء مظهر فيه أحلام النفس كما فيه المنفعة لا بد من الاعتبارين جميعاً. وما نظن أحلام النفس الشرقية كأحلام النفس الغربية إلا إذا أزيح الحد الذي يفصل بينهما.
 

سخافة التقليد


وههنا أمر لا بد من التنبيه إليه وذلك أن الأوربيين لا يتخذون من القبعات إلا أغطية للطريق فهم ينزعونها في مجالسهم وبيوتهم وأماكن عملهم ومن ثم كان بناؤها عندهم على أحكام الطرق وأرواح الشارع وهندسة الثلج والضباب والرطوبة، وبلادهم تعمى الشمس فيها أكثر السنة ولا تبصر إذا أبصرت إلا في أشعة كليلة. فمن سخافة التقليد بل من الغفلة أن ننزع نحن إلى ما اتخذوه وتنشأ على الوقاية من شمس أرضا بهذه الوقاية المحكمة في حين أنه إن لم تجعل بيننا وبين الشمس ونورها وحرها ملاءمة فنبرز لها و نعتادها من الصغر ونلقاها بوجوهنا - هيأنا ذلك لضرباتها عند أيسر الأسباب ووهنت فينا قوة الاحتمال ولم تعد أصلح لهذا الجو بعد، ولعله لا تمر بضعة أجيال حتى تظهر جنايتنا على أعقابنا في لعنة تعد ضربة من ضربات الطبيعة وأعلم ان ما يزينونه للشرقي من فضائل القبعة إن هو إلا منطق شهوات في حملته واقد تسمع الجائع الصائم يتكلم عن الطعام فترى كلاماً في معانيه معان أخرى لا يعدها غير الجائع إلا حماقة ساعتها.
 ولم أعرض في هذه الكلمة الجانب الديني ففيه كلام آخر يجعل اللعنة لعنتين.. وفي واحدة لما يذهب بالقبعة.


-