الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أمل دنقل حالة فريدة!

عبد المعطي احمد
عبد المعطي احمد

لو حصل على نصف حقه فقط,ربما ظلت وسائل الإعلام تتحدث عنه ليل نهار بلا انقطاع, فمروره على الدنيا دليل أن عصر المعجزات لم ينته,فلا يحتاج إلى لقب أو تعريف أو تقديم,ولايمكن أن تضع له منطق الأناس العاديين, فهو استثناء منذ خلقه الله,ولايجوز أن تضع معايير لتقييمه, فهو حالة فريدة يجب دراستها بشكل منفرد.

ولد أمل دنقل فى 23يونيو1940,وتوفى فى 21مايو 1983ظل هذه الفترة القصيرة من حياته دائما يرى مالا يراه سواه,ويحلم بالمستحيل, لكنه لا يحلم لنفسه, فحلمه مرتبط بوطنه, لذلك حين رحل نعاه الفذ يوسف إدريس قائلا:"لن أطلب منكم الوقوف دقيقة حداد, فنحن إذا وقفنا حدادا سيكون الحداد على عصر طويل قادم. حداد على العصر الذى سيمضى حتى يشب فيه رجال لهم شيم الرجال الذين كان يراهم أمل دنقل, وكرم الرجال الذين كان يحلم بهم أمل دنقل, وشرف ونبل وإنسانية وشجاعة ورقة الرجال الذين استشهد أمل دنقل وهو يراهم, ويحلم برؤيتهم".

هو فوضوى يحكمه المنطق. صريح وخفى فى آن واحد. انفعالى متطرف فى جرأة ووضوح, وكتوم لاتدرك ما فى داخله أبدا. يملأ الأماكن ضجيجا وصخبا وسخرية وضحكا ومزاحا صامت إلى حد الشرود يفكر مرتين وثلاثا فى ردود أفعاله وأفعال الآخرين حزين حزن لاينتهى استعراضى يتيه بنفسه فى كبرياء لافت للأنظار بسيط بساطة طبيعية يخجل معها إذا أطريته, وأطربت شعره صعيدى محافظ, عنيد لا يتزحزح عما فى رأسه, وقضيته دائما هى الحرية, ومشواره الدائم يبدأ بالخروج عاشق للحياة, مقاوم عنيد يحلم بالمستقبل والغد الأجمل, ويمقت الحلول الوسط إنه يتلف كل الألوان جميعها ليظل اللون الأبيض والأسود وحدهما فى حياته.

هذا هو أمل دنقل كما عرفناه ورأيناه, ووصفته أرملته المبدعة البديعة عبلة الروينى أقرب الأحياء إلى قلبه.

فقد أمل دنقل كثيرين فى رحلة حياته القصيرة فى السابعة عرف أمل فقد الأخت, وفى سن العاشرة عرف فقد الأب, وقبل أن يبلغ السادسة عشرة فى عام 1956 تدرب أمل دنقل على حمل السلاح. وقتها أعلنت المدرسة أنها ستقوم بالتعاون مع الجيش بتدريب الطلاب على السلاح حتى يستطيعوا الاشتراك فى المعركة ضد العدوان الثلاثى على بورسعيد الباسل, فسارع أمل دنقل بالاشتراك فى التدريب فى حوش المدرسة, وبالفعل ظل التدريب قائما عدة أيام حتى أجاد التعامل مع السلاح, لكن بعد انتهاء فترة التدريب تم إبلاغه بأنه سيعمل فى الدفاع المدنى!فطغى الحزن عليه, وشعر أنه بحاجة ماسة إلى أن يعبر عن انفعالاتك, وأن لديه مايقوله, فوجد نفسه يكتب أول قصيدة فى حياته, ليكتشف أن بذرة الشعر تعيش داخله.

وقرر فى هذه اللحظة أن يحارب بالقصيد, وفى هذه الأثناء كان أمل مازال طالبا وترك المدرسة, وذهب إلى جامعة القاهرة بصحبة صديق عمره عبد الرحمن الأبنودى, وحينذاك كانت القاهرة حافلة بكل الأنشطة السياسية والثقافية, فنسيا فى صخب القاهرة أنهما طالبان فى الجامعة حين شغلتهما الثقافة عن الدراسة, وعادا إلى قنا للتفرغ للشعر والقراءة ,وعمل الأبنودى فى المحكمة ككاتب جلسة, فى حين تسلم أمل عمله كمحضر فى المحكمة بالحجز على ممتلكات الناس, لكنهما استقالا بعد أن تحملا كما هائلا من السخافات طوال فترة عملهما فى هذه الوظيفة ثقيلة الظل, وعاد الاثنان إلى رشدهما, وعادا إلى القاهرة, وظلا يناضلان فيها حتى صار كلاهما معجزة شعرية كبرى, وصار لهما مدرسة, ولها مريدون من المحيط إلى الخليج, أحدهما صار من علامات الشعر العام, والآخر صار يدرس شعره فى أقسام اللغة العربية لطلاب الجامعات, لكن الأهم أنهما ظلا صديقين حتى الرمق الأخير فى حياة أمل دنقل.

لكن المدهش أن أمل فى هذا اللقاء قبل الأخير قال للخال:"أن سمعت لك غنوة كنت عاملها لمحمد قنديل فى عيد الربيع, وماسمعتهاش تانى أنا عايز الغنوة دى دلوقتى",فتعجب الخال وسأله:"إسمها إيه؟فقال:"ناعسة".

الغريب أن الأبنودى لم يتذكر الأغنية مطلقا, وسأل عنها كل الملحنين الذين تعاون معهم حتى وجدها لدى حلمى أمين الموجى, وكانت تائهه وسط الشرائط ,وظل يبحث عنها حتى وجدها, وذهب الأبنودى لأمل ليسمع الأغنية التى طلبها, وكانت تقول:"ويا ناعسة لا لا لالا.. خلصت معايا القوالة.. والسهر اللى رمانى.. قاتلنى لامحالة!!.كأن أمل كان يقرأ نفسه فى هذه الغنوة,فالسهم قد أصابه, ولامحالة.