تمتع صلاح جاهين، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله، بمواهب عدة مثل كتابة الشعر والرسم والتمثيل أيضاً، فهو كان بمثابة فنان شامل، في بداياته لم يكن قادراً على اختيار أي موهبة ليكرس لها وقته ومجهوده، فقرر أن يترك نفسه لكل المواهب حتى يجد ذاته في واحدة منهم، درس الفنون الجميلة التي كانت سبباً في خوضه تجربة الرسم بشكل عشوائي حتى تحولت تلك التجربة إلى مرحلة هامة في حياته ويصبح رسام كاريكاتير عرفه كل المصريين تاركًا بصمة واضحة في عالم الصحافة، وتظل رسوماته شاهدة على هموم المصريين وأحوالهم.
صلاح جاهين.. تعثر منذ اللحظات الأولى في الحياة
عُرف صلاح جاهين بـ «شاعر الثورة وفيلسوف الفقراء»، ويقول في إشعاره: «على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء.. أنا مصر عندي أحب وأجمل الاشياء»، هكذا هي مصر عند صلاح جاهين، الذي كانت ولادته متعثرة وتعرضت والدته للخطر، مما جعله يولد شديد الزرقة ودون صراخ حتى ظن المحيطون أن الطفل قد ولد ميتاً، ولكن صرخته كانت منبهة بولادة طفل ليس ككل الأطفال، وتسببت تلك الولادة المتعثرة في عدم استقرار حالته المزاجية، كما أدت إلى إصابته بالحدة في التعبير عن المشاعر – سواء كانت فرحاً أو حزناً.
فحينما كان يفرح كالأطفال ويحزن لدرجة الاكتئاب عند المصائب، جاهين حياته في المجال الفني بالتحاقه بكلية الفنون الجميلة ولكنه لم يكمل دراسته ليتحول إلى دراسة القانون في كلية الحقوق ثم تزوج وأنجب ابنه الشاعر بهاء من زوجته الأولى الفنانة الرسامة سوسن زكي، وكانت زيجته الثانية من الفنانة منى قطان، بعد أن انتهى من دراسته عمل رسام كاريكاتير في روز اليوسف، وصباح الخير ثم التحق جاهين بصحيفة الأهرام، وكانت أعماله تحظى بشعبية كبيرة جداً، وتأثير واسع أقوى من أي مقال صحفي، وظلت رسوماته تقدم بانتظام.
صلاح جاهين.. تخليد عبد الناصر.. وصدمة النكسة
وقبل أن يعمل في الأهرام كان جاهين يكتب الشعر العامي حتى قام الضباط الأحرار بنزع فتيل ثورة 23 يوليو 1952 التي كانت مصدر إلهام لجاهين و قام بتخليد جمال عبد الناصر فعليا بأعماله حيث سطر عشرات الأغاني، ولكن هزيمة 5 يونيو 1967م خاصة بعد أن غنت أم كلثوم أغنيته راجعين بقوة السلاح عشية النكسة أدت إلى إصابته بالاكتئاب.
وكانت النكسة الملهم الفعلي لأهم أعماله الرباعيات التي لحنها سيد مكاوي وغناها على الحجار، وقدمت الرباعيات أطروحات سياسية تحاول كشف الخلل في مسيرة الضباط الأحرار والتي يعتبرها الكثير أقوى ما أنتجه فنان معاصر.
كما قام بتأليف ما يزيد عن 61 قصيدة منها على اسم مصر وقصيدة «تراب دخان» التي ألفها بمناسبة نكسة يونيو 1967، قصيدة «انتهى الدرس» عن مذبحة مدرسة البقر كما ألف جاهين أوبريت «الليلة الكبيرة» أشهر أوبريت للعرائس في مصر، وكرمه الرئيس جمال عبدالناصر في عيد العلم 1965ومنحه وسام العلم والفنون من الطبقة الأولى.
وكانت وفاة الرئيس عبد الناصر هي السبب الرئيسي لحالة الحزن والاكتئاب التي أصابته وكذلك السيدة أم كلثوم حيث لازمهما شعور بالانكسار لأن عبد الناصر كان الملهم والبطل والرمز لكرامة مصر بعدها لم يستعيد جاهين تألقه وتوهجه الفني الشامل حتى توفي في 21 أبريل 1981 .
صلاح جاهين وحكايته مع الكاريكاتير
الكاريكاتير بالنسبة لصلاح جاهين، إكتشفه صدفه، فقد كان يعمل في جريدة وسط الصحفيين ويقوم بتجهيز الصفحات معهم ويزينها برسومه البسيطة، وكان يعتبر نفسه شخصاً كسولاً فيؤجل الرسومات المطلوبة منه حتى وقت الطباعة فيضطر لرسمها سريعاً فخرجت منه بشكل كاريكاتير دون قصد منه تماماً ومن هنا بدأت رحلته مع رسم الكاريكاتير، وهو ما رواه في لقاء إعلامي قديم ببرنامج أوتوجراف .
يقول صلاح جاهين في برنامج أوتوجراف :" من ضمن الحاجات اللي كنت بحبها الصحافة وعيشت وسط الصحفيين وبدات أزين الصفحات في الجريدة ببعض الرسوم، ولأني كسول كنت برسمها في اخر وقت بسرعة فطلعت في شكل كاريكاتير ، وبعدها جالي ناقد فني وعرض عليا ارسم كاريكاتير في روز اليوسف لكني مكنتش مقتنع باللي بعمله، والناقد قالي عندك حس فكاهي وخطوطك خفيفة ورفضت لحد ما كلمني أحمد بهاء الدين مدير تحرير روز اليوسف وقد كان".
وتابع صلاح جاهين في أوتوجراف:" أول حاجة عملتها كانت رسوم عن الراديو في الأتوبيس، وبدأت أعمل رسومات وأجسد موضوعات الشعب يحبها ويميل ليها، واخترت موضوعات الساعة،بحب الكاريكاتير المجنون لكن مقدرش ارسمها في جريدة صباحية يومية، ففكرت أعمل كتب واجمع كل الرسومات في كتاب واحد " .
صلاح جاهين يفشل في رقص البالية
صلاح جاهين، تخطى كل المواهب، وكاد أن يصل إلى مرتبة الفلاسفة، مارس كل الفنون ولكنه فشل في أن يحقق حلمه بأن يصبح راقص باليه كما ذكر في أحد حواراته، ليس بسبب ضخامة وزنه ولكن بسبب صعوبة الحركات التي كانت تطلب منه.
صلاح جاهين أهم شعراء الإنسانية في العالم
وبرغم تفوق صلاح جاهين في كل أنواع الفنون السالفة، إلا أن اسمه كشاعر كاف لأن يجعله واحدا من أبدع شعراء القرن العشرين في مصر، وواحدا من أهم شعراء الإنسانية في العالم نظرا لما قدمه من إبداع شعري إنساني صادق وجديد ومعبر عن روح إنسان العصر وقضاياه من خلال خيال شعري جريء مغاير لما يجري عليه الشعر العربي، ويؤكد على ذلك ما جاء للناقد رجاء النقاش في دراسته بعنوان «صلاح جاهين الشاعر والإنسان» فيقول: «والفن العربي عموما، يشكو من النقص في جرأة الخيال وطموحه، فليس في أدبنا كله أكثر من موقفين أو ثلاثة تدل على تحليق الخيال العربي، وهذه المواقف هي فكرة أبو العلاء في (رسالة الغفران)؛ فقد تجرأ خياله الأدبي وتصور عالم الجحيم والجنة، وبنى صورة لهذا العالم، وهناك قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل التي تصور فيها إنسانا يعيش في جزيرة منعزلة يبحث عن معنى المجهول وسر الحياة، وهناك أخيراً بعض قصص (ألف ليلة وليلة).
ولكن الطابع العام للخيال الأدبي عند العرب والخيال الشعري على وجه خاص هو القصور، والعجز عن التحليق، ولذلك لم يظهر في أدبنا شاعر مثل ملتون أو بيرون، اللذين تصورا عصيان الشيطان في صورة التمرد والبحث عن المنطقة، وربطا بين فكرة التمرد وبين الطموح، وليس عندنا شاعر مثل شكسبير أو دانتي، فالشائع في شعرنا العربي أن الشاعر يطير بجناحين صغيرين، لا يقدران على التحليق فالخيال كسول قاصر الطموح محدود بالواقع المادي، مشغول برسمه وتنظيمه عن طريق الحكمة والفلسفة».