لا شك أن الاقتصاد العالمي بات مهددًا نتيجة للأزمات الدولية المتلاحقة التي أصبحت شبحًا يطار نموه واستقراره، فعلى الرغم من التحذيرات التي ساقتها العديد من المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، وصندوق النقد والبنك الدوليين خلال العاميين المنصرمين بشأن المخاطر التي قد تهدد نمو الاقتصاد العالمي، بداية من أزمة نقص سلاسل الغذاء، وأزمة كوفيد 19 ومتحوراته وصولا إلى أزمة التغيير المناخي، إلا أن العديد من دول العالم لم تستطع مجابهتها حتى الآن.
على الجانب الآخر؛ هناك دولا عدّة عانت اقتصاداتها تقلبات وعدم استقرار نتيجة للأزمات الداخلية التي مرت بها على مدار عقود ماضية، وعلى رأسها مصر، إلا أنها استطاعت مجابهة تلك الأزمات وحققت نموًا ملحوظًا خلال السنوات الماضية بفضل الإصلاحات الاقتصادية التي أجرتها منذ عام 2016، وهو ما جعلها تتربع على عرش اقتصاديات البلدان الصاعدة، ما دعا العديد من المؤسسات الدولية إلى الإشادة بالاقتصاد المصري وصلابته مقارنة بالعديد من الدول الأخرى بالقارة الإفريقية، مؤكدين أن أداء الاقتصاد المصري فاق توقعات كافة المؤسسات الدولية، وذلك بعد إعلان رئيس مجلس الوزراء المصري في المؤتمر الصحافي الذي عقد منتصف فبراير من العام الجاري أن الاقتصاد المصري حقق معدل نمو بنسبة 8.3% في الربع الثاني من العام المالي الجاري 2021-2022 وبنسبة 9% في النصف الأول.
هذا يقودنا إلى التفكير في مدى الصعوبات التي ستواجه الدول للمحافظة على معدلات النمو التي حققتها، ولا سيما في ظل المتغيرات الجديدة التي طرأت على الاقتصاد العالمي نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، التي سرعان ما تحولت إلى حرب اقتصادية طاحنة، وضعت الاقتصاد العالمي كليًّا تحت وطأتها وأفرزت العديد من المخاوف لدى المؤسسات الدولية بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي، فمن المعلوم أن روسيا وأوكرانيا تعدان من أكبر البلدان المصدرة للسلع الأساسية للعديد من دول العالم، ونتيجة للحرب الدائرة بين كلا المعسكرين فقد أدى ذلك إلى انقطاع سلاسل الإمداد الواردة من كليهما، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار العالمية بصورة حادة، ولا سيما أسعار القمح و النفط والغاز الطبيعي، حيث ارتفعت تكاليف تصنيع المنتجات الغذائية وقفزت لمستوى تاريخي نتيجة لزيادة أسعار القمح، نظرًا لكون روسيا وأوكرانيا تسهمان بنسبة لا تقل عن 30% من صادرات القمح العالمية، كما أدت الأسعار الآخذة في الارتفاع إلى زيادة حدة التوترات الاجتماعية في بعض البلدان، كالتي لديها شبكات أمان اجتماعي ضعيفة ونسب بطالة عالية وحيز محدود للإنفاق من المالية العامة، وقد لا تتضح الصورة الكاملة لبعض الآثار لسنوات طويلة، إلا أن هناك علامات واضحة على أن الحرب وما أفضت إليه من قفزة في تكاليف إنتاج السلع الأساسية الضرورية ستزيد من الصعاب التي تواجه صناع السياسات الاقتصادية في بعض البلدان لتحقيق التوازن الدقيق بين احتواء التضخم ودعم التعافي الاقتصادي.
من المؤكد أن الحرب الروسية الأوكرانية سوف تعيد رسم الخريطة الاقتصادية العالمية، وستخلف تداعيات مستقبلية ذات تأثير قوي على كافة الأصعدة، ولا شك أن موجات التضخم العالمية التي ضربت كافة دول العالم وصاحبها إعلان العديد من الدول تراجع معدل نمو اقتصادها لهو نتيجة لتأثيرات تلك الحرب، وفي ظني أن هذا ينذر بخطر عالمي حقيقي، فبقدر ما كان يسعى العالم نحو زيادة نمو اقتصاداته بعد الأزمات التي أثرت عليه، أصبحت الآن غاية آماله هو المحافظة على معدل النمو الذي حققه واستقراره عند المعدلات التي تضمن صموده أمام تلك المتغيرات الجديدة، ففي ظل حالة الضبابية التي يعيشها العالم بشأن تلك الحرب لا يمكن توقع كافة التأثيرات التي ستخلفه علي الاقتصاد العالمي في ظل القرارات والإجراءات الجديدة التي تتخذ من قبل طرفي الأزمة.
وبالنظر إلى التأثيرات التي سببتها تلك الحرب على الاقتصاد العالمي - حتى الآن - نستطيع أن نقول أنها ما زالت تأثيرات محدودة، فكما هو معلوم أن التأثيرات الاقتصادية تظهر على المدى البعيد، فعلى الرغم من موجات التضخم التي ضربت كافة الأسواق العالمية منذ بداية الأزمة وأدت إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع أسعار السلع الأساسية كالغذاء والطاقة في ظل تضاؤل قيمة الدخول وضعف الطلب على المنتجات والخدمات على مدى الشهريين الماضيين إلا أن الخطر الحقيقي يتمثل في عدم صمود الاستثمارات المالية القائمة في العديد من دول العالم أمام تلك المتغيرات الجديدة، فعدم قدرة الأسواق على استيعاب طلبات جديدة سيؤدي إلى انهيار أسعار الأصول، و من ثم تشديد الأوضاع المالية وهو ما سيؤدي بالتبعية إلى تراجع ثقة المستثمرين ومؤسسات المال الأعمال في مدى قدرة اقتصاديات الدول على استيعاب استثمارات جديدة، ومن ثم التفكير في تقليل حجم التدفقات المالية ولاسيما الأسواق الناشئة.
على أي حال، فإن الحرب لم تنتهي بعد والعالم يترقب حلا سريعا لتلك الأزمة الطاحنة، ولا شك أن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت، لكن علينا أن نعرف أننا جميعا أن الاقتصاد العالمي بمر مرحلة مفصلية، ومن المؤكد أنه لن يتعافى سريعا، فمن المعلوم أن البناء يستغرق أعواما، لكن يحدونا الأمل أن نستطيع تجاوز تلك الأزمة قريبا.