الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أنا والدرويش

نهال علام
نهال علام

"سأقف على ناصية الحلم وأقاتل" جملة من أجمل ما كتب الراحل محمود درويش، قرأتها في طفولتي واستوعبتها في صِباى واعتنقتها في مراحل الشباب المُبكرة، ولم أمعن التفكير بها إلا مُنذ سنوات قليلة.

كم هي جميلة المراحل الأولى من عُمر الإنسان، يُقبِل دون تفكير يتحمَس دون تدبير يؤمن بلا تقدير، وتلك سُنة الحياة فَورِة البدايات التي تصِل للذروة في يوم آتٍ آت، ويكون ذلك إنذاراً للاستعداد لاستقبال النهايات.

جميعنا من مُلاك الحُلم وبعضنا أصحاب إرادة وقليلُنا ذوي العزيمة المُرادة، لذا بلوغ الغايات ليس صَكاً مع الأحلام فلسنا سواسية في القُدرة على صِناعة الحِلم والأهم إننا لسنا على مسافة واحدة من موجباتِه.

ولعل أول شروط جواب السؤال هو الصَبر، الذي يتطلب التسليم دون استسلام للصعاب مهما بدت كالهضاب، ولكن لأنها النفس الضعيفة التواقة والمُشتاقة لا تنفك تستصعب الطريق ويرهقها الانتظار وتهلكها الأمنيات، ولكن ما البديل الصبر الجميل إلا اليأس المُريع!

وبين هذا وذاك بعض إشارات من السماء، تبحث عمّن يُحسن استقبالها ويجيد تفسيرها، وهذا لا يحدُث إلا مع الصفوة المختارة التى اختصها الله بأن كشف عنها غطاءها فكان بصرها كالحديد، وهذا هو الجديد على العقل الذي لم يستوعب الفَهم إلا بمضي العُمر الذي يركُض كالفرس الهُمام بينما تتسكع الأحلام على ناصية درويش، تستعد لنزال ما لم ينزِل الله به من سُلطان!

لذا وبعد كل تلك السنون، والكثير من الاندفاع والجنون، والتعقل الميمون، والتَفكُر بسبيل مضمون، واعتناق آيات الكُون، وبعض صبر على ما لا يطيقون، وتقبل الكثير من المِحن المصون، وذرف الكثير من الدمعِ المكنون، وتلمس قدرة الله فيما يحيطون، أصبحت على قناعة بأن نصيبك محتوم ورزقك محسوم وسعيك المكتوب ستؤجر عليه فربك ليس بظلامٍ للعبيد، ولكن أجرك من قَدَرك وعلى قَدرِك.

لذا واتتني الشجاعة اللحظية في تلك الساعة الليلية لأعلن عصياني على شاعر الإنسانية، وصاحب القضية درويش الأبيات الشعرية، سأواجهه بما اكتشفته أن ليس للحلم ناصية وأنها دون إرادة الله ليس لها كاشفة، وأعمالنا على بديعها ناصبة إذا لم يأذن الرحمن بحر في الكاف والنون اللذان يمدان الجسور ليصلا بين المستحيل والممكن، لذا ليس كل ما نتمناه يُمكِن!

رحمة الله واسعة وحكمته شاملة وقدره لا راد له، وليس من أمر على ظهر تلك الفانية إلا وعليه هَين، وما تُقدمه أيدينا ليس إلا ما يُبقينا على دين الحلم الذي يجعلنا ننهض من سباتنا صباحاً لنقاتل ولكن ليس على ناصية الأحلام ولكن في ميدان الواقع!

نحارب يأسنا ونبارز قلة حيلتنا ونُزيح الغبار عن عزيمتنا ونتكأ على يقيننا ونجاهد لنتشبث بأمنياتنا وسط ريح الصِعاب الصرصرة وأمواج المفاجآت الغادرة، والقادرة على اقتلاع راحة القلوب وهدوء العقول، وأكبر انجازاتنا أن نعود ليلاً لفراشِنا قادرين على انتزاع بعض النوم من عين تلك الأحلام التي لا تهدأ ولاتنام.

ومن بين تجليات اليوم الهُمام إذا بدرويش يقتحم علي أضغاث الأحلام دون أن يلقي السلام، ويسألني بسلام هل أنهكتك الأحلام، أم تراه عجزك عن فهم ما في جعبة الأيام!

مسحت عيني بيدي لأمسح عنها أثر دمعة وشبح بسمة لا تليق بما أنتويه من عتاب بين المُحبين، أجبته بثقة بل أنت من استنزفتني بعد ما استفزيتني بكلماتك وأبياتك وقصائدك فأمضيت عمري وأنا اقتفى أثر الفراشة، فلم أجده بالرغم ما أوتيت لي من الفراسة!

أعاد وضع نظارته لتستقر على أنفه وقال لي ناصحاً أهزمي الشك رغم أنفه، وانتبهي لقصائدي ألم أحذرك عندما أخبرتك عن الرحلة في قصيدتي "لا شيء يعجبني "!

أم تراكي لم تنتبهي عندما حذرتك من نفس الآمال عندما قلت في قصيدتي "من أنا دون منفى" ذلك البيت أقرأيه، أو سأقرأه أنا عليك لعلك تتفهمين صافرة التنبيه " أَم أَنَّ أَحلامنا وَجَدَتْ فرسًا من خيول المَغُول على التلِّ فاُسْتَبْدَلَتْنا؟".. نبهتك بينما كنت هناك، صبية تتأهب لقتالٍ لن يحدث في ذلك الركن الدفين، فلا تلوميني ولكن أنتِ من تلامين اختبرتك الحياة، بينما كُنت أنا من تختبرين!

نظرت له متعجبة وسألته غاضبة ألست أنت من طلب أن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً! فكيف يجتمع الحب مع تلك القسوة وهل تتنفس الأحلام وسط ذلك الضباب والاختناق! لم تذكر في أبياتك أن آفة العشق الخذلان وداء الحياة النُكران!

فضحك قائلاً: هذا أثمُك ألم تتساءلي لم كنت "أدرب قلبي على الحب كي يسع الورد والشوك" فمن يريد الورد ليتحمل الشوك والحياة معاً، تلك الحياة التى رجوتها قائلاً: "أيها الحاضر تحملنا قليلا، فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل".

نظرت له بوجل وتساءلت بعجب "هل في وسعي أن أختار أحلامي، لئلّا أحلم بما لا يتحقق"؟ 
فقال لي بصوت أقرب للطرب : جئتيني بأقرب كلماتي لقلبي والتي ما لبثت أن تحير عقلي، ولازال الجواب هارباً وإن كان السؤال واجباً هل الأحلام قرار أم اختيار؟

فأجبته بيقين زائف : إنها رهن الحظ والظروف وقدر ما تؤتى من الإصرار والاستمرار! 

قطب حاجبيه ونظر في ساعة يده وقال لي بصوت خفيض هذا سؤال حائر يستجدي الإجابة من زمن جائر ولقد حان وقت الرحيل ، انقبض قلبي وافترش يأسي تقاسيم وجهي فسألته عن السبب فقال " خيالي لم يعد يكفي لأكمل رحلتي ".

رأيته من خلف عِبراتي كالدخان المُتطاير، حاولت أن أسأله الانتظار ولكن صوته دوى من بعيد متمتماً " أتيت ولكني لم أصل.. وجئت ولكني لم أعد "..

ذهب درويش وبقيت الأحلام، وتذكرت قوله أن " اللامبالاة فلسفة وهي صفة من صفات الأمل"، لذا سأتحلى بها لعلها تُسكن الألم، الذي سيبقى إلى أبد الآبدين موجعاً، فلعل آلام اليقين المحققة أخف وطئة من وجع الآمال المعلقة، ولكن لا سبيل لانتصار الأحلام إلا بالأحلام لذا سأقف ولكن سأغير ناصية درويش بعارضة العُمر وأقاتل اليأس والعجلة وكل ما يُبطل وميض الحُلم في القلب مادام نابضا.

وإذا كان درويش يرى أن "لنا أحلامنا الصّغرى، كأن نصحو من النّوم معافين من الخيبة، لم نحلم بأشياء عصيّة، نحن أحياء وباقون، وللحلم بقية".

فسأزيد عليه بيتاً أن الحلم له بقية طالما العُمر به بقية، ومهما تكرر انشطار الحلم على صخرة الواقع، سنظل حالمين لنجد موطئاً في أرض لا تعترف إلا بالواقع، وإذا كانت الأحلام ذنباً فأسأل الله ألا يغفره.