لم يكن تهديد حلف شمال الأطلنطي " الناتو " ، بنشر قواته في أوكرانيا، بمثابة السبب الرئيسي الوحيد الذي دفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لشن الحرب على أوكرانيا ، لكن هناك أسباب أخرى لا تقل أهمية ، على رأسها ، إصرار الرئيس بوتين ، على الوقوف في وجه الإستراتيجية الأمريكية الرامية لتدمير الكيانات الكبرى ، و رفضه للسياسة الامريكية القائمة على عدم السماح بظهور قوة عالمية ثانية ، تهدد النظام العالمي القائم حاليا على أحادي القطبية ، و المتمثل في سيطرة الولايات المتحدة على العالم، منذ تفتيت الإتحاد السوفيتي السابق، منذ نحو 30 عاما.
كما أن تصميم الرئيس بوتين ، على تدعيم قوة بلاده العسكرية ، بقوة إقتصادية ، رغم إدراكه للقوة الإقتصادية الأمريكية الأوروبية و التي تجسدت مؤخرا ، في أقوى صورها ، في إستخدام منظومة " سويفت" البنكية ، التي تصفها أمريكا بالقنبلة النووية الإقتصادية ، يعد أيضا من الأسباب المهمة الأخرىالتي دفعت الرئيس بوتين الى إجتياح أوكرانيا .
فالولايات المتحدة ، التي ظلت تبحث عن ذريعة ، لإستخدام سلاح "سويفت" و غيرها من العقوبات الإقتصادية ، حتى يتم منع الرئيس بوتين من تدعيم عضلاته العسكرية النووية الهائلة ، بعضلات إقتصادية مماثلة ، لم تجد أفضل من تهديد الأمن القومي الروسي ، بالتلويح بنشر قوات حلف شمال الأطلنطي "الناتو" على أبواب بلاده . فأمريكا تدرك جيدا أن بوتين لن يقف مكتوف اليدين ، و هو يرى قوات الناتو تقترب من شبه جزيرة القرم ، التي تعد بمثابة المنفذ الوحيد لروسيا على المياه الدافئة ، و التي كانت قد إقتطعتها روسيا من أوكرانيا في العام 2014 .فشبه جزيرة القرم تمثل لروسيا أمن قومي من الطراز الأول ، فهي المنفذ البحري الوحيد لروسيا على المياه الدافئة ، و التي من خلالها يمكن أن تنفذ الى منطقة الشرق الأوسط و غيرها من مناطق العالم ، في وقت تعاني فيه كل السواحل الروسية الأخرى ، من التجمد ، بفعل الثلوج الناجمة عن إنخفاض درجات الحرارة معظم فترات السنة .فبوتين يدرك جيدا أنه في حال نجحت أمريكا في نشر قوات الناتو على حدود بلاده في الأراضي الأوكرانية المتاخمة ، فإن ذلك لا يعني فقط تهديد حرية ملاحة الاسطول التجاري الروسي باتجاه العالم ، بل يعني أيضا حرمان الأسطول العسكري الروسي ، الذي يتخذ من مياه القرم قاعدته الرئيسية ، من الوصول لمناطق الصراع في أسرع وقت ممكن . فكل ما يقلق الولايات المتحدة من الرئيس بوتين، الذي يحكم روسيا منذ 23 عاما ، هو إمتلاكه لطموح شديد يستهدف إعادة العالم من جديد لمنظمومة "ثنائية القطبية " التي كانت قائمة قبل تفتيت الإتحاد السوفيتي في العام1991 ، لكن خطورة طموح بوتين هذه المرة ، من وجهة نظر أمريكا ، يكمن في أنه يعمل على تسليح روسيا بعضلات إقتصادية ، لتدعيم عضلاتها العسكرية ، المدعمة بأكثر من 6 آلاف رأس نووي ، قادرة على إبادة العالم مئات المرات، و ليس إبادة الولايات المتحدة فقط من على الخريطة . و ترى أمريكا و حلفاءها من جماعات الضغط " اللوبيز " تحت مظلة الصهيونية العالمية ، أن نجاح مخطط تفتيت الإتحاد السوفيتي السابق ، إلى 15 دولة ، من بينها أوكرانيا ، يرجع إلى ضعف الأوضاع الإقتصادية في دول الإتحاد السوفيتي السابق ، مما سهل عملية تفتيت هذا الكيان العظيم ، الذي ورثت روسيا ترسانته النووية المدمرة .
كما ترى نفس هذه المجموعة الثلاثية ، أن إعتماد دول الإتحاد الأوروبي المتزايد على روسيا في التزود بالبترول و الغاز ، يعد دعما قويا للإقتصاد الروسي، الذي بدأ يولي إهتماما كبيرا بالصناعات المدنية ، مثلما يهتم بالصناعات العسكرية ، خلافا للإتحاد السوفيتي السابق ، الذي كان يكرس الغالبية العظمى من ميزانيته للتسليح و تطوير التكنولوجيا العسكرية ، من دون الإهتمام بالتقدم الإقتصادي و التكنولوجي المدني . و تؤمن أمريكا تماما بأنه لولا ضعف الاقتصاد المدني للاتحاد السوفيتي السابق ، لما أستطاعت تفكيك و إسقاط الأنظمة الشيوعية التي كانت قائمة في دوله . كما أن مخاوف أمريكا و حلفاءها من إعتماد أوروبا المتزايد على الغاز و البترول الروسي ، يرجع إلى الفزع من أن يؤثر الإرتباط الاقتصادي الروسي الاوروبي المطرد ، على القرار السياسي الأوروبي، وفقا لواقع " المصالح تتصالح" في وقت ظلت تخضع فيه أوروبا للإرادة السياسية الأمريكية ، منذ أنتهاء الحرب العالمية الثانية في العام1945.
فروسيا تصدر للعالم بترول و غاز بنحو 300 مليار دولار كل عام ، جانب مهم منهما يذهب لاوروبا ، لتدفئة منازلها ، و إدارة عجلة الإنتاج في مصانعها ، مما جعل أوروبا ، لا سيما ألمانيا ، مرتبطتان بقوة بالطاقة القادمة من روسيا . و يصل معظم الغاز الروسي إلى أوروبا عن طريق أوكرانيا ، لكن مع تزايد إحتياجات أوروبا من الطاقة ، خاصة من جانب ألمانيا بعد أن قررت وقف إنتاج محطات توليد الكهرباء من المفاعلات الذرية ، بادرت روسيا بإنشاء خط أنابيب جديد أطلق عليه " نورد ستريم 2" ، تولت إقامته شركة "غاز بروم" الروسية العملاقة ، بإسهامات مادية ، من مجموعة شركات أوروبية، ألمانية و فرنسية ، و بريطانية، و نمساوية . وترجع مخاوف الولايات المتحدة، من نورد ستريم 2 ، الى أنه سيضاعف ، في حال تشغيله ، من ضح الغاز الروسي لأوروبا ، من 55 مليار متر مكعب حاليا ، إلى 110 مليار متر مكعب، الأمر الذي سيزيد من إعتماد أوروبا على روسيا في التزود بالطاقة ، التي تعد بمثابة قاطرة التقدم في العالم . وفي حال تشغيله سيوجه خط أنابيب نورد ستريم 2 ، ضربة قوية للإقتصاد الأوكراني، لأنه لن يمر عبر الأراضي الأوكرانية ، كما هو المعتاد بخصوص نقل الغاز و البترول الروسي لاوروبا ، بل إمتد لمسافة1230كم ، تحت مياه بحر البلطيق، ليربط بشكل مباشر بين روسيا و ألمانيا ، مما سيضيع ما يزيد عن 3 مليار دولار، كل عام ، على أوكرانيا ،رسوم عبور ، لو كان قد مر بأراضيها .
و كانت أمريكا قد أعربت عن رفضها الشديد لنورد ستريم 2 ، الذي أصبح بالفعل جاهزا للتشغيل، لكنها تراجعت عن موقفها أمام ضغوط ألمانيا الدولة الصناعية الكبرى . و مع حشد روسيا لأكثر من 120 ألف روسي على الحدود الاوكرانية ، هدد الرئيس الأمريكي جو بايدن ، بأن خط غاز نورد ستريم 2 ، لن يتم تشغيله، لو قامت روسيا بإجتياح أوكرانيا . و بالفعل، فقد كان أول قرار أتخذته المانيا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ، هو تجميد الأستعدادات الخاصة بتشغيل الخط ، بعد أن أنتهت روسيا بالفعل من إقامته ، لتحرم روسيا من عائدات سنوية من الميزانيات الأوروبية ، قدرها 15 مليار دولار .
و من جانبها أتخذت أمريكا حزمة عقوبات إقتصادية جديدة على روسيا ، إرتفعت عقب أندلاع الحرب على أوكرانيا من2500عقوبة ، الى 6 آلاف عقوبة ، على رأسها منع روسيا من إستخدام منظومة "سويفت" البنكية .و سويفت تأسست سنة1973من أكثر من 11 ألف مؤسسة بنكية في نحو 200 دولة حول العالم . و تكتسب سويفت أهمية كبرى بالنسبة لاقتصاد الدول فهي تمكن الحكومات و الشركات من عقد الصفقات، سواء في مجال الإستيراد ، أو التصدير ، في ثوان معدودة، بضغطة واحدة على زر سويفت ، في حين أن من يطرد منه ، سيجد نفسه محروما من التعامل بالدولار ، العملة التجارية الدولية ، و من التحويلات بين البنوك ، و سيكون عليه في هذه الحالة أن يضع نقوده ، التي قد تصل للمليارات ، في حقائب لتوصيلها للدولة المراد الاستيراد أو التصدير لها ، و هو أمر غير ممكن ، بل مستحيل، في ظل الأوضاع العالمية الحالية ، خاصة لو كانت هذه الأموال ذاهبة لدولة تؤيد العقوبات التي فرضتها أمريكا على روسيا . باختصارستجد البنوك الروسية نفسها خارج اطار سويفت ،مما سينزل ضررا بالغا بالاقتصاد الروسي و برجال الاعمال الروس ، حتى لو باعت روسيا بترولها و غازها بالروبل المحلي . و ترى أمريكا أن سويفت ستكون بمثابة القنبلة النووية الأمريكية، في مواجهة الصواريخ و القنابل النووية الروسية ، التي يهدد بوتين باستخدامها في حال تم إنزال الضرر بالأمن القومي الروسي .وترى أمريكا أن العقوبات الاقتصادية ستنتهي بالاطاحة ببوتين ، في حين يرى بوتين بأن بنوكه تمتلك البديل لابقاء الاقتصاد الروسي على قيد الحياة ، وأنه كممون رئيسي لأوروبا بالبترول و الغاز، فلن تتمكن أمريكا من منع بنوكه بشكل تام من التعامل بمنظومة سويفت و الا سيطلب من أوروبا تسديد التزاماتها له بالروبل الروسي.
و نهاية فإن فإن استراتيجية أمريكا و حلفاءها ، تقوم على تفتيت الكيانات الكبرى . و بالفعل حققت هذه الاستراتيجية نجاحا منقطع النظير ، توج في العام 1991، بتفكيك الاتحاد السوفيتي السابق ، لخمسة عشر دولة ( روسيا ، أوكرانيا ، بيلاروسيا ، كازاخستان الخ الخ ) ثم لقيت يوغوسلافيا نفس المصير بتقسيمها لسبع دول ( صربيا ، كرواتيا ، البوسنة الخ الخ) ثم تلتها تشيكوسلوفاكيا التي تم تقسيمها لدولتين ( التشيك و السلوفاك ) . و فور الإنتهاء من تقسيم أوروبا الشرقية ، حولت أمريكا مخططها صوب الشرق الأوسط ، مستغلة الخلافات السياسية ،و الدينية ، و العرقية في هذه المنطقة ، فنجحت في تقسيم فلسطين ، إلى سلطة فلسطينية و حماس. ثم جاء دور السودان الذي تم إقتطاع الجنوب منه ليصبح السودان دولتان ، دولة السودان و دولة جنوب السودان . و أستمر مسلسل التفتيت ليستهدف ، العراق ، ليتم تقسيمه ، بشكل غير رسمي، إلى ثلاث دويلات، شيعة ،و سنة، و أكراد . و ساهمت ثروات الربيع العربي في تتويج المخطط الامريكي بالنجاح ، ليعاد تقسيم اليمن، بشكل غير رسمي ، الى اليمن الشمالي ، و اليمن الجنوبي ، و نفس المصير وجدته ليبيا التي أصبحت مقاطعتين بنغازي و طرابلس في حين تم تدمير سوريا بحرب أهلية مكنت إسرائيل من تأمين أحتلال الجولان ، في حين سيطرت تركيا على الشمال السوري .
و يبقى السؤال ، هل سينجح الرئيس بوتين في إمتصاص العقوبات الإقتصادية ، ليحبط مخطط منعه من تدعيم عضلاته النووية بعضلات إقتصادية ليعيد أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق ، أم ستنجح أمريكا في تحقيق مخطتها الرامي لإسقاطه من حكم روسيا ، من خلال إطالة عمر الحرب على أوكرانيا ، حتى تؤتي العقوبات نتائجها المأمولة ، ليظل العالم أحادي القطبية ، و تحتفظ الولايات المتحدة لنفسها بعرش القوة العظمى الوحيدة في العالم ؟.