الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عالم أحادي أم ثنائي القطبية  

علاء حيدر
علاء حيدر

 لم يكن تهديد حلف شمال الأطلنطي " الناتو " ، بنشر قواته في أوكرانيا،  بمثابة  السبب الرئيسي الوحيد الذي دفع الرئيس الروسي،  فلاديمير بوتين،  لشن الحرب على أوكرانيا ، لكن هناك أسباب أخرى لا تقل أهمية ، على رأسها ، إصرار الرئيس   بوتين ، على الوقوف في  وجه  الإستراتيجية الأمريكية الرامية لتدمير  الكيانات الكبرى ، و رفضه  للسياسة الامريكية القائمة على   عدم السماح بظهور قوة عالمية ثانية ، تهدد النظام العالمي  القائم حاليا على أحادي   القطبية ،  و المتمثل  في سيطرة الولايات المتحدة على العالم،  منذ تفتيت  الإتحاد السوفيتي السابق،  منذ نحو  30 عاما.  


 كما أن  تصميم الرئيس بوتين ، على تدعيم قوة بلاده العسكرية ، بقوة إقتصادية ، رغم إدراكه  للقوة الإقتصادية الأمريكية الأوروبية  و التي تجسدت مؤخرا  ، في أقوى  صورها ، في إستخدام منظومة " سويفت"  البنكية ، التي تصفها  أمريكا بالقنبلة النووية الإقتصادية ، يعد أيضا  من  الأسباب المهمة الأخرى التي دفعت الرئيس بوتين الى إجتياح أوكرانيا . 


  فالولايات المتحدة ، التي  ظلت  تبحث عن ذريعة ، لإستخدام سلاح "سويفت"   و غيرها من العقوبات الإقتصادية ، حتى يتم منع   الرئيس بوتين من  تدعيم  عضلاته  العسكرية النووية الهائلة ، بعضلات  إقتصادية مماثلة ، لم تجد  أفضل من تهديد الأمن القومي الروسي ، بالتلويح بنشر قوات حلف شمال الأطلنطي "الناتو"  على أبواب بلاده  .  فأمريكا تدرك جيدا أن بوتين  لن يقف مكتوف  اليدين ، و هو  يرى قوات الناتو تقترب من شبه جزيرة القرم ، التي تعد بمثابة المنفذ الوحيد لروسيا على المياه الدافئة ، و التي كانت قد  إقتطعتها  روسيا من أوكرانيا في العام  2014 . فشبه جزيرة القرم تمثل لروسيا أمن قومي من الطراز الأول ، فهي   المنفذ البحري الوحيد لروسيا على المياه الدافئة ، و التي من خلالها يمكن أن تنفذ  الى منطقة  الشرق الأوسط و غيرها من مناطق العالم ، في وقت  تعاني فيه كل السواحل الروسية الأخرى ، من التجمد ، بفعل الثلوج الناجمة عن إنخفاض درجات الحرارة معظم فترات السنة  .فبوتين  يدرك جيدا أنه في حال  نجحت أمريكا في نشر   قوات الناتو على حدود بلاده  في الأراضي الأوكرانية المتاخمة  ، فإن ذلك لا يعني فقط تهديد  حرية ملاحة الاسطول التجاري  الروسي  باتجاه العالم ،  بل يعني أيضا  حرمان   الأسطول  العسكري الروسي ، الذي يتخذ من مياه القرم قاعدته الرئيسية ، من الوصول لمناطق الصراع في أسرع وقت ممكن   . فكل ما يقلق الولايات المتحدة من  الرئيس بوتين،  الذي يحكم روسيا منذ 23 عاما ،  هو إمتلاكه لطموح شديد يستهدف إعادة العالم  من جديد لمنظمومة "ثنائية القطبية " التي  كانت  قائمة  قبل تفتيت الإتحاد السوفيتي في العام 1991  ، لكن خطورة طموح بوتين   هذه المرة ، من وجهة نظر أمريكا ، يكمن في أنه يعمل على تسليح روسيا  بعضلات إقتصادية ، لتدعيم عضلاتها العسكرية ، المدعمة بأكثر من 6 آلاف رأس نووي ، قادرة على إبادة العالم مئات المرات،  و ليس إبادة الولايات المتحدة فقط من على الخريطة . و ترى أمريكا و حلفاءها من جماعات  الضغط " اللوبيز "  تحت مظلة الصهيونية العالمية ، أن نجاح مخطط تفتيت الإتحاد السوفيتي السابق ، إلى 15 دولة ، من بينها أوكرانيا ، يرجع إلى ضعف الأوضاع الإقتصادية في دول الإتحاد السوفيتي السابق ، مما سهل عملية تفتيت هذا الكيان العظيم ، الذي ورثت روسيا ترسانته النووية المدمرة . 

 


 كما ترى نفس هذه المجموعة الثلاثية ، أن إعتماد دول الإتحاد الأوروبي المتزايد  على روسيا في التزود بالبترول  و الغاز ، يعد  دعما  قويا للإقتصاد الروسي،  الذي بدأ يولي إهتماما كبيرا  بالصناعات المدنية ، مثلما يهتم بالصناعات العسكرية ، خلافا للإتحاد السوفيتي السابق ،  الذي كان يكرس الغالبية العظمى من ميزانيته  للتسليح و تطوير التكنولوجيا العسكرية ، من دون الإهتمام  بالتقدم الإقتصادي و التكنولوجي المدني .  و تؤمن أمريكا تماما بأنه لولا ضعف الاقتصاد المدني للاتحاد السوفيتي السابق ،  لما أستطاعت   تفكيك و إسقاط الأنظمة  الشيوعية التي كانت قائمة  في دوله   . كما أن مخاوف أمريكا و حلفاءها  من  إعتماد أوروبا المتزايد على الغاز و البترول الروسي ، يرجع إلى الفزع  من   أن يؤثر الإرتباط  الاقتصادي الروسي الاوروبي المطرد   ، على القرار السياسي الأوروبي،   وفقا لواقع " المصالح تتصالح" في وقت ظلت  تخضع  فيه أوروبا  للإرادة السياسية الأمريكية ، منذ أنتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945.

 


  فروسيا تصدر للعالم بترول  و غاز  بنحو  300 مليار دولار كل عام  ،  جانب مهم منهما يذهب لاوروبا ، لتدفئة منازلها ، و إدارة عجلة الإنتاج في مصانعها ، مما جعل أوروبا ، لا سيما ألمانيا ، مرتبطتان بقوة بالطاقة القادمة من روسيا  . و يصل معظم الغاز الروسي إلى أوروبا عن طريق أوكرانيا ، لكن مع تزايد إحتياجات أوروبا من الطاقة ، خاصة من جانب  ألمانيا  بعد أن  قررت وقف إنتاج محطات توليد الكهرباء من  المفاعلات الذرية  ،   بادرت روسيا  بإنشاء خط أنابيب جديد أطلق  عليه " نورد ستريم 2" ، تولت إقامته شركة "غاز بروم"  الروسية العملاقة ، بإسهامات مادية ، من مجموعة شركات أوروبية،  ألمانية و فرنسية ، و بريطانية،  و نمساوية . وترجع مخاوف الولايات المتحدة،  من نورد ستريم 2 ، الى  أنه سيضاعف ، في حال تشغيله ، من  ضح الغاز الروسي لأوروبا ، من 55 مليار متر مكعب حاليا ،  إلى 110 مليار متر مكعب،  الأمر الذي  سيزيد من إعتماد أوروبا على روسيا في التزود بالطاقة ، التي تعد  بمثابة قاطرة التقدم في العالم . وفي حال تشغيله  سيوجه   خط أنابيب نورد ستريم 2 ، ضربة قوية للإقتصاد الأوكراني،  لأنه  لن يمر عبر الأراضي الأوكرانية ، كما هو المعتاد بخصوص نقل الغاز و البترول الروسي لاوروبا ، بل إمتد لمسافة 1230 كم ، تحت مياه بحر البلطيق،  ليربط بشكل مباشر  بين روسيا و ألمانيا ، مما سيضيع  ما يزيد عن 3 مليار دولار،  كل عام ، على أوكرانيا ،رسوم عبور ،  لو كان قد مر بأراضيها .  


 و كانت أمريكا قد أعربت عن رفضها الشديد  لنورد ستريم 2 ، الذي أصبح بالفعل جاهزا  للتشغيل،  لكنها تراجعت عن موقفها أمام ضغوط ألمانيا الدولة الصناعية الكبرى  . و مع حشد روسيا لأكثر من 120 ألف روسي على الحدود الاوكرانية ، هدد الرئيس الأمريكي جو بايدن ، بأن خط غاز نورد ستريم 2 ، لن يتم تشغيله،  لو قامت روسيا بإجتياح أوكرانيا . و بالفعل،  فقد كان أول قرار أتخذته المانيا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ، هو تجميد الأستعدادات الخاصة بتشغيل الخط ، بعد أن أنتهت روسيا بالفعل من إقامته ، لتحرم روسيا من عائدات سنوية  من الميزانيات الأوروبية ، قدرها 15 مليار دولار . 

 
 و من جانبها أتخذت أمريكا حزمة عقوبات إقتصادية جديدة على روسيا ، إرتفعت عقب أندلاع الحرب على أوكرانيا  من 2500 عقوبة ، الى 6 آلاف عقوبة ، على رأسها منع روسيا من إستخدام منظومة "سويفت"  البنكية .و سويفت تأسست سنة 1973 من أكثر من 11 ألف مؤسسة بنكية في نحو  200 دولة حول العالم . و تكتسب سويفت أهمية كبرى بالنسبة لاقتصاد الدول    فهي  تمكن الحكومات  و الشركات من عقد الصفقات،  سواء في مجال الإستيراد ، أو التصدير ، في ثوان معدودة،  بضغطة واحدة على زر سويفت ، في حين أن  من يطرد منه ، سيجد نفسه محروما من التعامل بالدولار ، العملة التجارية الدولية  ، و من التحويلات بين البنوك ، و سيكون عليه في هذه الحالة أن يضع نقوده ، التي قد  تصل للمليارات ، في حقائب  لتوصيلها للدولة المراد الاستيراد أو التصدير لها  ، و هو أمر غير ممكن ، بل مستحيل،  في ظل الأوضاع العالمية الحالية ، خاصة لو كانت هذه الأموال ذاهبة لدولة تؤيد العقوبات التي فرضتها أمريكا على روسيا . باختصارستجد البنوك الروسية نفسها خارج اطار سويفت ،مما سينزل ضررا بالغا بالاقتصاد الروسي و برجال الاعمال الروس ، حتى لو باعت روسيا بترولها و غازها بالروبل المحلي . و ترى أمريكا أن سويفت ستكون بمثابة القنبلة النووية الأمريكية،  في مواجهة الصواريخ و القنابل النووية الروسية ، التي يهدد بوتين باستخدامها في  حال تم إنزال الضرر بالأمن القومي الروسي .وترى أمريكا أن العقوبات الاقتصادية ستنتهي بالاطاحة ببوتين ، في حين يرى بوتين بأن بنوكه تمتلك البديل لابقاء الاقتصاد الروسي على قيد الحياة ، وأنه كممون رئيسي لأوروبا بالبترول و الغاز،  فلن تتمكن أمريكا من منع بنوكه بشكل تام من التعامل بمنظومة سويفت و الا سيطلب من أوروبا تسديد التزاماتها له بالروبل الروسي.  

 


و نهاية فإن فإن استراتيجية أمريكا و حلفاءها ، تقوم  على تفتيت الكيانات الكبرى . و بالفعل حققت هذه الاستراتيجية  نجاحا  منقطع النظير ، توج في العام  1991 ، بتفكيك الاتحاد السوفيتي السابق ، لخمسة عشر دولة ( روسيا ، أوكرانيا ، بيلاروسيا ، كازاخستان الخ الخ )  ثم لقيت يوغوسلافيا نفس المصير  بتقسيمها لسبع دول ( صربيا ، كرواتيا ، البوسنة الخ الخ) ثم  تلتها تشيكوسلوفاكيا التي تم تقسيمها  لدولتين  ( التشيك و السلوفاك ) . و فور الإنتهاء من تقسيم أوروبا الشرقية ،  حولت  أمريكا مخططها صوب الشرق الأوسط ، مستغلة  الخلافات السياسية ،و  الدينية ، و العرقية في هذه المنطقة ، فنجحت في تقسيم فلسطين ، إلى سلطة فلسطينية و حماس.   ثم  جاء دور السودان الذي تم إقتطاع الجنوب منه ليصبح السودان دولتان ، دولة السودان و دولة جنوب  السودان . و أستمر مسلسل التفتيت  ليستهدف ،  العراق ، ليتم تقسيمه ، بشكل غير رسمي،  إلى ثلاث دويلات،  شيعة ،و سنة،  و أكراد . و ساهمت ثروات الربيع العربي في تتويج المخطط الامريكي بالنجاح ،  ليعاد تقسيم اليمن،  بشكل غير رسمي ، الى اليمن الشمالي ، و اليمن الجنوبي ، و نفس المصير وجدته ليبيا التي أصبحت مقاطعتين بنغازي و طرابلس في حين تم تدمير  سوريا بحرب أهلية مكنت إسرائيل من تأمين أحتلال الجولان ، في حين سيطرت تركيا على الشمال السوري .  


 و يبقى السؤال ، هل سينجح الرئيس بوتين في إمتصاص   العقوبات الإقتصادية ،  ليحبط مخطط منعه من تدعيم عضلاته النووية بعضلات إقتصادية ليعيد أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق  ، أم ستنجح  أمريكا في تحقيق مخطتها  الرامي  لإسقاطه من حكم روسيا ، من خلال إطالة عمر الحرب على أوكرانيا ،  حتى  تؤتي العقوبات نتائجها المأمولة ، ليظل العالم أحادي القطبية ، و تحتفظ الولايات المتحدة  لنفسها بعرش القوة العظمى الوحيدة في العالم ؟.