الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مكافحة الغلاء

نهال علام
نهال علام

كُنا صغاراً نطوف الأرض نهاراً جهاراً، لا نخشى لائمين ولا نُفكر إلا بالمُلهمين ولا نخشى إلا أن نكون متهمين في نظر آبائنا بأننا من المُهملين، لذا كان رضا المعلمين هو ما يضيء ليالي الاجازة والعطلات أيام الدراسة، ويحمينا من لسان الحق المُبين التي تنطق به الأمهات عن يقين بأن طريق الملاعب الذي انتهجناه آخره بلاءٍ لعين، بينما تدافع الجدات بمنتهى الثبات عن حقوقنا في اللعب والدلع الذى قد يؤدي أحياناً للفساد!

مضى العُمر وذهبت تلك الأيام ومابقي منها إلا الذكرى والحنين وبعض الكلمات والعبارات المأثورات على شاكلة " أيامكم السودة؛ زمنكم الأغبر؛ دنيا قليلة البركة؛ نهاركم المعفرت؛ جيلكم البايظ؛ منعدمي المسؤولية " وغيرها من عبارات الأسف والخوف من المصير المحتوم الذي سنقود العالم إليه نحن أبناء الجيل المحفوف بالغموض.

تلازمني تلك الكلمات في الذاكرة وتصيبنى نوبة ضحك عندما اضبط لساني متلبساً بتكرارها، وتأخذني نوبة حنين عندما يذهب خيالي لما كنت أجهله وتمنيت لو تمضي الأيام لأكبر وبدوري وأردده، فما كان يشغلني ليست جمل التأنيب الأسرية بل عبارات الصحافة المنزلية، التى تستخدم في الحوارات العائلية اليومية، الجمل كانت مُبهمة، أرددها مع أقراني الصِغار بهمهمه، فهي لا تبدو لائقة على عالمنا الصغير الذي يشبه عالم سمسم الخالى من المشكلات، إلا الرغبة في المزيد من كل المُسليات.

جمل رنانة مثل " العالم على صفيح ساخن، ازدياد سعر البترول، جرام الذهب ارتفع، الغزو، المباحثات الأحادية والثنائية، بيهربوا الدقيق، عقوبات اقتصادية، حرب عالمية ثالثة، نووي، صراع سياسي،سعر البيض، عقوبات، الناتو، سعر كيلو اللحمة ٤٠جنيه!" ما أشبه اليوم بالبارحة…
هي عجلة التاريخ التي تدور في دوائر متكررة ومتلاحقة، فما نعيشه تلك الأيام هو ما عاصرناه صغاراً إبان حرب الخليج وما تلته من اللهو الأمريكي بثوابت العالم، والتي كانت تفاصيلها تحمل ملامح ما عاشه أجدادنا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تلك السنوات التي حملت الظلال العسيرة للحروب العالمية التي حضرها أجدادهم.

متوالية لا نهائية من الفصول التاريخية المتلاحقة والمتشابهة، كُتب على الكُرة الأرضية كافة أن تعيش تفاصيلها وتدفع ثمن فداحتها، فاللعب بالسياسة كاللهو بالنيران، فكل بضع سنوات يُصاب العالم بحمى الغزو وأنفلونزا التعدي، قوي كبرى تشتهي اللهو بالطائرات الحربية وأصوات المفرقعات القذائفية، تستحضر أشباح الخراب وطقوس الغلاء والعناء، وهو عالمُ واحد، فعندما سعلت إحداهن في سوق السمك بإحدى القرى الصينية أربكت العالم أجمع، وڤيروس كورونا لازال شاهد فهو حي يرزق!

لذا كان من السهل توقع التبعات الاقتصادية للأزمة الروسية الأوكرانية، وخاصة على الدول التي لا تحمِل أي مصالح ولا تتوقع الغنائم من وطيس الصراع الدائر، فمِصر على مرّ التاريخ لم تفتعل حرباً ولا تسعى لتحقيق مكاسب أغنياء الحروب، دائماً وأبداً مِصر رمانة الميزان، كلمتها حق ومواقفها صدق، وما نحن بصدده اليوم يثبت ذلك، فبفضل السياسات الخارجية المتزنة احتفظت مصر بعلاقاتها القوية مع كل الأطراف الدولية التى تبحث في تلك الأوقات عن قشة تتكأ عليها لقلب الصفوف وأي حجج واهية تتحرك بها الجيوش، ولكن بلادنا حكيمة وذكية تعالج الأزمة بكل الحرفية، ولكن ذلك ليس قادراً على منع التبعات الاقتصادية فهي كالغيوم لبدت سماوات الشعوب وأصابت أقواتها اليومية.

غلاء حقيقي عالمي تواجهه الدول إثر ذلك الصراع، تجتهد كُلٌ منها لتضبط أثاره، فخارج حدود إمكانياتها أن تمنعه، فالعالم بعد ٢٤ فبراير لن يعود كما كان من قبل، فموجات زيادة الأسعار هي مَد بلا جَذر!
قواعد جديدة للممارسات السياسية الدولية والتى ستنعكس بدورها على الكفة الاقتصادية وبالتالى على الأسعار المحلية، لذا من يتسائل ونواياه طيبة أو يتخابث في طرح السؤال حول الزيادة في الأسعار  سيجد الإجابة في كتب التاريخ بفصل الحروب، وفي مراجع الاقتصاد تحت عنوان ويلات تلك الحروب!

صفحات من التاريخ شاهدناها صِغاراً وتشاركناها كِباراً، نحن الجيل المشكوك في أمره مُسبقاً وفيما يبدو أن ظنون الآباء ما كانت إلا عن قوة الحَدس!
فذلك الخوف من جيلنا به الكثير من الصواب، فنحن نقود أخطر المحركات على وطننا والتي تفوق في آثارها أعتى المدافعات، نحن الجيل الذى تولى قيادة المحركات الالكترونية وصفحات الفصام الاجتماعية وسنحاسب يوماً على كل تأثيراتها السلبية، فتلك البذرة نحن من زرعناها ومع تعاقب الأجيال طرحت سُنة فرضناها، تلك النبتة المسمومة لن ينجو منها أحد لا من زرع ولا حَصد.

كوميديا قد تبدو بلهاء ولكن لها آثار سوداء نتداولها ليل نهار على صفحات التواصل الاجتماعي، منشورات ساخرة وبحروف الإفتاء مُبهرة، مدعي الفَهم افتتحوا أسواق المتاجرة ببضاعتهم الفاسدة، البعض بحسن نية لكن لا يشفع له فكلنا نحمل على عاتقنا المسؤولية الاجتماعية، والبعض الآخر يستغل الموقف لتنفيذ مخطط طال الشوق إليه وهو كيف تهدم وطنك وتحيا عبداً لدى خُدامك!

المصريون شعب قادر على مواجهة المسؤلية وتحمل الظروف، على مر العصور نحن شعب نواجه الأزمة بالضحكة والسرور، بنزغرد للشهيد ونقهر النكبات بالنكات، ولكن نحن في زمن السم في العسل، لذا علينا ألا ننساق لتلك الهوجة الالكترونية، ففي تلك الظروف الكلمة أمانة والحقيقة رسالة، والمجهودات التى تبذلها الدولة جبارة للحفاظ على لقمة عيش المواطن اليومية، ولكن ماذا نفعل في النفس الإنسانية التي تتاجر بمعاناة البشرية؟

فنصف الأزمة هي جشع تاجر قرر أن يتكسب من دم أخيه المواطن! على مدى الأيام السابقة والدولة تعمل جاهدة لكبح زمام الأزمة وذلك بحزمة قرارات لازمة وملزمة، حيث أقرت عقوبات فورية على التاجر الذي تسول له نفسه بتخزين السلع بغرض الاحتكار أو تعطيش السوق ورفع الأسعار، كما كانت للدولة تدخلات فاعلة في تسعير الخبز الحر، وحظر تصدير السلع الأساسية كالفول وغيره، وتقديم حوافز لتوريد المزيد من القمح المحلي لتشجيع المزارعين، كما وفرت منافذ الشرطة كلنا واحد وسيارات الخدمة الوطنية وأكشاك أمان التابعة للقوات المسلحة كل ما يحتاجه المواطن بأسعار ملائمة لتكبح جشع التجار وتساهم في ضبط الأسواق والتخفيف عن المواطن.

إنها الحرب، هادمة اللذات ومُفرِقة الجماعات، كاسحة الاقتصاد وهادمة النماء وخادمة الأهواء، وذلك قدرنا أن نواجه تبعاتها وإن كان ما يحدث ليس باختيارنا، ولكن مواقفنا اليوم سيحاسبنا عليها التاريخ غدا، لذا يجب علينا أن لا نستصغرن الكلمة ولا نستهين بمنابت الشرار، فكلنا في الأزمة راعي لمواقفه.

اليوم تعيش الإنسانية في جسد واحد ولكن له ألف عقل، وتلك ضريبة الكون الواحد الذي نتشاركه، لذا فلنتراحم فيما بيننا، ولنؤازر بعضنا عِوضاً عن تلك السلبية والتشاؤمية على صفحاتنا، فالموقف عالمي والمعاناة دولية، ونحن والكثير من شعوب العالم لا ناقة لنا ولا شاه فيما يدور، ولكنه البلاء الذي لن يرفعه مجاهدي التواصل وفرسان المنصات الاجتماعية بمنشوراتهم التى تعبث بالسلامة النفسية والأمن المجتمعي لأبناء هذا الوطن، والعقل هو القرار الوحيد الذي نملكه عندما يشتد الجنون، فكن صاحب قرار ولا تنساق لدرب الأشرار.