تدفع الأزمة الروسية- الأوكرانية إلى حافَّة حرب ممتدة لا تبدو واضحة النهاية، وإن كانت الأطراف التي تتصدر المشهد معروفة، و لعل تمسك كل طرف في الأزمة بمحددات إستراتيجية لا تقبل التفاوض، سيغير من تشكيل الخريطة الدولية، ليس على مستوى اطراف الصراع - روسيا وأوكرانيا- فحسب، بل وعلى مستوى دول المحيط الجغرافي، وأبعاده الجيوسياسية، وامتداد ذلك نحو منطقة الشرق الأوسط.
ففي سياق مساعي إعادة الهيمنة، أو وقف اقتراب حلف شمال الأطلسي من أراضيها، وجدت موسكو أن هناك ضرورة ملحة حول اتخاذ تدابير حيال إعاقة الاندفاع الأوكراني نحو الغرب، وضمان بقاء الغرب على مسافة آمنة مِن روسيا. وقد أرست روسيا أساساً ذلك، باقتطاعها شبه جزيرة القرم مِن أوكرانيا عام 2014م، عقب أحداث الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام الموالي لروسيا، وقيام نظام جديد موالي للغرب.
ولعل مما عقد الأزمة تصلب الموقف الروسي وتفاقم حدة العمليات العسكرية بعدة مناطق أوكرانية ، وهو ما يمثل ذروة تصاعد التوترات الروسية مع أوكرانيا والغرب خلال الفترة الأخيرة.
وباستذكار مقولة هتلر عن الحرب وأنها كفتح باب غرفه مظلمة لن تعرف أبداً ما الذي سيحدث عند فتح هذا الباب، وعلي الرغم من إن هذه العملية العسكرية محددة وواضحة الأهداف والتي تتمثل في تأمين الحدود الشرقية في أوكرانيا، ألا ان تداعياتها متشعبة وممتدة. فهناك تساؤلات جدلية تظهر علي السطح بشأن طبيعة وشكل النسق الدولي في ظل تصاعد حدة الصراع الدائر، والامكانيات المطروحة حول التغيرات التي يمكن أن تحدث في النظام الدولي.
فقد تحمل الأزمة الأوكرانية في طياتها ملامح لنظام دولي جديد، وانقسام عالمي حاد يشهده العالم في الوقت الراهن، ما بين الولايات المتحدة وحلفاؤها من ناحية، والصين وروسيا من ناحية أخرى. وهو الأمر الذي يتجلى واضحاً من خلال الاتفاق الصيني الروسي على ضرورة مواجهة واشنطن وحلفائها وسعيهم لتقويض مناطق نفوذهما، فيسعي الجانبين الروسي والصيني بلعب دور بديل للتحالفين العسكريين الغربيين اللذين تقودهما الولايات المتحدة الناتو وأوكوس الذي يمثل فرعا للناتو في آسيا.
وبالتالي فهناك مكاسب للصين من الأزمة الأوكرانية ترتبط بمسألة توحيد جبهة المطالب وقد تمثل ذلك في إصدار بيان مشترك تم فيه التأكيد على أن موسكو وبكين ترفضان أي توسيع لعضوية الناتو. وايضاُ ما يمكن أن تجنيه بكين من تخفيف حدة التوترات والضغوطات التي تواجهها من الجانب الأميركي؛ ذلك في ضوء توجه البوصلة إلى التوتر بينموسكو والغرب، كونها محطة استكشافية للجانب الصيني؛ لاختبار ردات فعل واشنطن والغرب حال غزو روسيا لأوكرانيا، بما يوفر للصين صورة أوضح بالنسبة لخياراتها المستقبلية في ملف تايوان وفي الوقت ذاته تسعي الصين من ناحية أخرى لتخفيف الضغط من ناحية تايوان، خاصةً مع الدعم الغربي والأميركي لأوكرانيا في مواجهة روسيا.
بيد ان هناك تحديات تفرضها أزمة أوكرانيا على المصالح الصينية، أبرزها ما يتعلق بتداعيات آثار الأزمة على صناعة الأسلحة في الصين، حيث ان عدم استقرار أوكرانيا والتي تعد شريكة لبكين في مبادرة الحزام والطريق يمكن أن يمثل تهديدا على صناعة الأسلحة المستنسخة بالصين، في ضوء اعتماد تلك الصناعة على شركات الدفاع الأوكرانية.
اما روسيا وفي ظل التشكيك في جدوى العقوبات الاقتصادية عليها واحتمال حصولها على دعم من السوق الصينية أو بعض مناطق نفوذها، من جهة وكذا عدم اشتمال قطاع الطاقة علي العقوبات الاقتصادية و الاكتفاء بإيقاف العمل بخط نورد ستريم 2 من جهة اخري، الا انه من المؤكد أن العقوبات الحالية المفروضة على روسيا ستؤثر بدورها على سلاسل الإمداد الروسية إلى شركائها التجاريين في كل دول العالم بما يسهم في ارتفاع الأسعار من حيث وسائل النقل التي تنقل الصادرات الأوكرانية والروسية.
وفي المقابل، فقد كشفت قضية أوكرانيا هشاشة هيكل النظام الدولي الذي تتبناه الولايات المتحدة لخدمة المصالح الامريكية والغربية، فالتباين في المواقف داخل ذلك التحالف كان شديد الوضوح؛ بما عكس ضعف الولايات المتحدة في فرض إملاءاتها على الأطراف الدولية الكبرى، فضلاً عن ذلك فقد تعاني الولايات المتحدة من أزمات داخلية متعددة أبرزها الموجة التضخمية التي تجتاح الأسواق الأمريكية وهو الامر الذي ادي إلى حالة من السخط في الداخل الأمريكي نتيجة ارتفاع معدلات التضخم الذي بلغ نحو 7.5 % خلال شهر يناير 2022.
وفي الوقت ذاته، فقد بلورت الازمة الحالية عن افتقار الدول الأوروبية الكبرى القدرة علي صياغة موقف سياسي وعسكري موحد حيال الأزمات، حيث برهنت تلك الازمة عن وجود شرخ واضح في التحالف الغربي، فهناك من يتبنى موقف واشنطن، وهناك من يتوخى الحذر حفاظاً على مصالحه مع موسكو خاصة تلك المتعلقة بإمدادات الطاقة حيث تمد روسيا الدول الأوروبية بنحو 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وهو الأمر الذي سيسبب انقطاعه ازمة فادحة تتشعب تأثيراتها وتتمثل بشكل أساسي في الارتفاع الحالي في أسعار الغاز وما يصاحبه من ارتفاع وتضخم كبير في الدول الأوروبية، بالتالي فإن منتجاتها التي تصدرها إلى كل دول العالم سيرتفع سعرها وتنخفض تنافسيتها الأمر الذي ينقل تضخم الى كل دول العالم.
اما التأثيرات المحتملة على الأسواق الناشئة، فمن شأنها أن تعيد تموضع بعض من هذه الأسواق علي الخريطة العالمية و الأوروبية كمصر وقطر والجزائر وليبيا، فالأمر بالنسبة لمصر سلاح ذو حدين ، فهناك فرصة لوضع مصر على خريطة الطاقة الأوروبية، حيث يعد ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي عاملا إيجابيا لمصر باعتبارها إحدى الدول المصدرة للغاز، وبالتالي ستنعكس تلك الزيادة في الأسعار إيجابيا على إيراداتها البترولية وذلك في ظل عدد من المقومات ابرزها الدور الذي تلعبه القاهرة ضمن منتدى غاز شرق المتوسط ، علاوة على ذلك الاستفادة من خطوط الأنابيب المزمع تدشينها بين مصر، واليونان وقبرص، لزيادة الكميات المصدرة لأوروبا.
ختاماً، فأن القراءة في خارطة المصالح التي تربط الدول بأطراف الصراع في الأزمة الأوكرانية، توضح بأن تأثيرات الأزمة وتداعياتها سوف تفرض سيناريوهات متباينة لمآلات صراع القوة المفتوح بين الغرب وروسيا.