قد يكون التغير المناخي أحد أسباب إنقاذ أوكرانيا من الغزو الروسي، فلطالما حارب طين الربيع الشهير بـ" الراسبوتيتسا" مع موسكو ضد أعدائها، بدءاً من المغول مروراً بنابليون ثم هتلر، ولكن التغيرات المناخية جعلت طين الربيع عدو روسيا الأكبر في حربها المحتملة مع كييف.
ما هي راسبوتيتسا؟
راسبوتيتسا هو مصطلح روسي يطلق في شمالي الاتحاد الروسي على الوحل المائع الناجم عن ذوبان الثلوج وتحرر التربة من جليدها في فصل الربيع عقب ارتفاع درجة الحرارة، ويشكل ذلك الوحل المائع عقبة أمام المواصلات البرية، وتستمر ظاهرة الوحل المائع قرابة أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع.
ويُستخدم مصطلح الراسبوتيتسا في الإشارة إلى موسم وحل أو طين الربيع، وهو وقتٌ تزداد خلاله صعوبة السفر من روسيا إلى أوكرانيا براً.
سلاح روسيا التاريخي ضد نابليون
وتوفر مواسم الراسبوتيتسا (Rasputitsa)في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا ميزة دفاعية كبيرة في زمن الحرب، وتوصف أحياناً بالجنرال "وحل" أو "مارشال الطين".
وربما أنقذ ذوبان الجليد في الربيع دولة مدينة نوفغورود الروسية من الغزو والنهب خلال الغزو المغولي في القرن الثالث عشر، وخلال الغزو الفرنسي لروسيا عام 1812، وجد نابليون الطين عائقاً كبيراً.
وحل الربيع ساهم في هزيمة أعداء روسيا من المغول مروراً بنابليون وصولاً إلى ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، أدت الفترة الموحلة التي استمرت شهوراً إلى إبطاء التقدم الألماني خلال معركة موسكو (أكتوبر/تشرين الأول 1941 إلى يناير/كانون الثاني 1942)، وربما ساعدت في إنقاذ العاصمة السوفييتية من الاحتلال الألماني.
كان مارشال الطين فعّالاً بشكل خاص في الحروب الحديثة، فبينما يمكن للدبابات العمل بفعالية في الصيف أو في الشتاء في هذه المناطق، فقد ثبت أنها أقل فائدة في الربيع والخريف.
ومع أنه تاريخياً حاربت ظاهرة طين الربيع مع روسيا ضد أعدائها الأقوياء، وساعدتها في الدفاع عن أراضيها، ولكن هذه المرة فإنها تمثل عائقاً محتملاً أمام جيوش موسكو التي ستكون هي المهاجمة في الحرب المحتملة مع أوكرانيا.
خداع طيب الربيع لبوتين
ويشعر الناس بتأثير "الراسبوتيتسا" أو وحل الربيع عادةً حين تبدأ الثلوج في الذوبان خلال شهر مارس، لكن الشتاء الجاري كان معتدلاً بشكلٍ غير معتاد في غالبية أنحاء أوكرانيا حتى الآن؛ حيث بدأ المطر ينهمر في بعض المناطق في اليوم الأول من فبراير.
وفي زاباروجيا، بدأت ضفاف النهر المكسوّة بالثلوج في الذوبان على هيئة قطراتٍ من الماء البني، بينما لم تصل درجات الحرارة إلى درجة التجمد حتى في منتصف الليل، وسط السحابة الضبابية التي تغطي نهر دنيبر.
حرارة أوكرانيا قفزت 3 درجات والجنود الروس ينشرون صور الأراضي الموحلة، ويناقش المحللون العسكريون ما إذا كان استمرار الطقس المعتدل قد يؤثر على أي خططٍ للهجوم الروسي.
إذ انتشرت مقاطع فيديو على الشبكات الاجتماعية من مختلف مناطق نشر القوات الروسية -وبعضها مقاطع نشرها الجنود أنفسهم، وفيها تظهر الأراضي اللينة التي غمرتها المياه وأصبحت مغطاةً بالوحل.
بينما تُظهر بيانات برنامج مراقبة الأرض التابع للاتحاد الأوروبي (كوبرنيكوس) أن غالبية دول أوروبا الشرقية تعرضت لدرجات حرارة أعلى من المعتاد في يناير، حيث شهدت أوكرانيا ارتفاع درجات الحرارة عن المعتاد في السنوات الـ30 الماضية بما يتراوح بين 1 وثلاث درجات مئوية وهذا مجرد تغير واحد من بين العديد من التغيرات التي جلبها تغير المناخ على هذه المنطقة.
تُظهر البيانات من كوبرنيكوس، برنامج مراقبة الأرض التابع للاتحاد الأوروبي، أن معظم أوروبا الشرقية شهدت درجات حرارة أعلى كثيرًا من المتوسط في يناير. وشهدت أوكرانيا درجات حرارة تتراوح بين 1 و3 درجات مئوية أعلى من متوسط الثلاثين عامًا الماضية، وهو أحد التغيرات العديدة التي أحدثتها أزمة المناخ في هذه المنطقة. ويشير كوبرنيكوس أيضًا إلى أنه في يناير، "كانت أوروبا الشرقية أكثر رطوبة من المتوسط"، وكانت التربة في أوكرانيا أكثر رطوبة. هذا المزيج يعني صقيع أقل ووحل أكثر.
لم يكن ذلك مفاجئًا لسفيتلانا كراكوفسكا، رئيسة مختبر علم المناخ التطبيقي في المعهد الأوكراني للأرصاد الجوية المائية في كييف. قالت لشبكة "سي أن أن" الأميركية: "ما نراه على المدى الطويل هو غطاء ثلجي أقل إضافة إلى ليالي الصقيع. نرى ارتفاعًا في درجات الحرارة أقوى كثيرًا من متوسطها العالمي".
التقدير الأميركي هو أن التوغل الروسي سيكون أسهل إذا انخفضت الحرارة. قال الرئيس الأميركي جو بايدن في مؤتمر صحفي الشهر الماضي: "سيضطر [الرئيس الروسي فلاديمير بوتين] إلى الانتظار قليلًا حتى تتجمد الأرض ليتمكن من العبور". وفي إحاطة إعلامية للبنتاغون في نهاية يناير، قال رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، إنه عندما يتجمد "منسوب المياه المرتفع" في أوكرانيا، فإنه يوفر الظروف المثلى لمسار عبر البلاد. وقال مسؤولون أميلاكيون أن بوتين يفهم أنه بحاجة إلى التحرك بحلول نهاية مارس.
روسيا تحتاج للجليد
"طين الربيع" يمكن أن يبطئ حركة كتائب المدرعات ويخلق اختناقات في مساراتها، الأمر الذي قد يجعل هذه القوات أهدافاً أسهل للصواريخ المضادة للدبابات، حسبما نقلت وكالة Reutersعن سيث جي جونز من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
لكن دارا ماسيكوت، كبير باحثي السياسات في مؤسسة راند، يقول: "بينما سيكون تجميد الأرض أمرًا رائعًا للقوات الروسية، إلا أنه ليس عاملًا حاسمًا. مهم أن تضع في اعتبارك أن الصواريخ الموجهة بدقة والضربات الجوية لا تتاثر بهذا العامل". يضيف: "تحسن أداء القوات الروسية بشكل كبير خلال العقد الماضي. اكتسبت القوات الجوية عمليات استهداف واتصالات أفضل، واكتسب العديد من طياريها خبرة قتالية في سوريا. كما أن الجيش الروسي يتدرب على مدار السنة، لذلك لديهم خبرة في ظروف جوية مختلفة".
الدبابات الروسية - ويوجد المئات منها الآن على الحدود الأوكرانية - لا تعيقها الأرض الناعمة كثيرًا، على الرغم من أنها تحقق تقدمًا أسرع على الأرض المتجمدة. مع ذلك، فإن الدروع تتحرك بنفس سرعة ذيلها اللوجستي، وهي المركبات التي يمكن أن تتباطأ بسبب سوء الأحوال الجوية "إذا كان عليها السير على الطرق الوعرة لسبب ما"، كما يقول ماسيكوت. وروسيا تملك معدات لوجستية للمساعدة في التغلب على مثل هذه المشاكل، بما في ذلك مركبات الإنقاذ ومواد الجسور.
هناك بعض الثلوج على الأرض في ماريوبول، ولكن ليس بنفس القدر الذي كان عليه الحال منذ عقود. كما تم رصد الجسور العائمة على قوافل السكك الحديدية التي تسافر إلى بيلاروسيا منذ أواخر يناير. قد تكون ظروف الأرض أكثر أهمية في بعض الأماكن من غيرها. أوكرانيا الشرقية أرض زراعية متدحرجة، وهي بلد مثالي للدبابات. لكن الحدود الشمالية مع بيلاروسيا تضم آلاف الأميال المربعة من المستنقعات التي من شأنها أن تعرقل تقدم القوة المهاجمة، كما حصل مع النازيين في عام 1941 أثناء عملية "بربروسا".
وفقًا لمعهد دراسة الحرب، "قد يكون من الصعب، وفي بعض الأماكن على الأرجح من المستحيل، على القوات الآلية اجتيازها عندما تكون مبللة". ويعتمد الكثير على نوع وحجم العملية العسكرية التي قد تفكر فيها روسيا. في المراحل الأولى من الصراع، ستكون الهجمات الجوية والصاروخية أكثر أهمية من زيادة عدد الوحدات الآلية.
يقول ماسيكوت، وكان سابقًا محللاً بارزًا في البنتاغون: "السماء لن تكون عاملًا في صواريخ كروز أو الصواريخ الباليستية الروسية الموجهة بدقة، أو حتى بعض أنظمة المدفعية بعيدة المدى الأكثر دقة. الغطاء السحابي بشكل خاص ليس عاملًا للمواقع الثابتة مثل المنشآت العسكرية أو القيادة والسيطرة حيث تُعرف الإحداثيات". وقد نقلت روسيا عددًا كبيرًا من صواريخ "إسكندر" الباليستية التي يبلغ مداها 450 كيلومترًا، ونصبتها بالقرب من أوكرانيا في الشهر الماضي. في الشرق، لم تتحرك مواقع الخطوط الأمامية الأوكرانية منذ سنوات. يمكن الصواريخ والمدفعية بعيدة المدى استهدافها بغض النظر عن أحوال المناخ، وربما توفر نقطة اختراق للدروع الروسية.
ضرورة السماء الصافية للحرب
ستحتاج الطائرات الهجومية إلى سماء صافية نسبيًا، وكذلك الأمر بالنسبة للطائرات التي تقوم بإسقاط القوات الهجومية الجوية في منطقة الصراع. وفقًا لمحللي الدفاع غينيس، "تم تحديد العديد من وحدات القوات المحمولة جوًا (VDV)وهي تنتشر في بيلاروسيا". تعيق القاعدة السحابية المنخفضة العمليات الجوية وكذلك الاستطلاع عبر الأقمار الصناعية، وقد يضعف هذا الأمر التفوق الجوي الروسي الكبير، ما يجعل ما أسماه أحد المحللين العسكريين المعركة "أكثر عدلًا".
لكنه سيف ذو حدين. الغطاء السحابي الكثيف (والليل) سيسمح للروس بتحريك القوات للأمام إلى خطوط البداية من دون الكشف عنها. إذا قرر الكرملين الهجوم، فإن فترة من سوء الأحوال الجوية تليها سماء صافية بمجرد بدء العمليات ستكون مثالية. والسماء مهمة للأوكرانيين أيضًا. إذا اختاروا دفاعًا عالي القدرة على المناورة، فسيحتاجون إلى معلومات استخباراتية محمولة جوًا توفرها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لتركيز الموارد المحدودة على النقاط الرئيسية لإعاقة التقدم الروسي.
بالطبع، ليست الأحوال الجوية هي الاعتبار الوحيد - ولا الاعتبار الرئيسي - للكرملين. من المرجح أن يكون التقدم (أو عدمه) في المفاوضات بشأن المطالب الروسية المنشورة المرسلة إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي هو العامل الحاسم. أن ابتكار بعض التبريرات - سبب الحرب - لخوض الحرب من شأنه أن يوفر رسائل مهمة للجمهور الروسي المتشكك. يشكل تشكيل حرب المعلومات جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية الروسية.
توقعات أمريكية
إذ قال الرئيس جو بايدن، خلال مؤتمرٍ صحفي الشهر الماضي: "سيضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للانتظار بعض الوقت حتى تتجمد الأرض، وذلك ليتمكن من عبورها".
كما صرّح رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، خلال جلسة إحاطة بالبنتاغون أواخر يناير/كانون الثاني، بأنّ تجمُّد "المياه الجوفية المرتفعة" في أوكرانيا "هو الذي سيخلق الظروف المثالية في الأراضي الواقعة بين البلدين ويسهل المناورة بالمركبات".
وقال مسؤولون أمريكيون كذلك إن بوتين سيدرك أنه بحاجةٍ للتحرك في نهاية مارس.