أكثر من 50 عاماً قضاها على الجيزاوى فى تجليد وتغليف الكتب القديمة، فى مطبعة صغيرة لا تتجاوز 5 أمتار مربعة بأحد الشوارع العتيقة بمدينة قنا ، دون أن يفكر ولو لمرة واحدة أن يغير نشاطه أو يبحث عن مجال آخر، بعدما تراجع رواد مهنته إلى أدنى مستوياتها فى تاريخ المهنة التى كانت رائجة فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى.
المطبعة التى كانت لها قيمتها كما الكتب التى كان الإقبال عليها لا ينقطع، فقدت بريقها وقيمتها من ظهور الكمبيوتر وأجهزة الطباعة الحديثة، التى زحزحت عرش المطابع القديمة التى كانت ولفترة قريبة من مظاهر التقدم والرقى لأى أمة من الأمم، وقضت على مهنة كانت تفتح أبواب الرزق للآلاف من الفنيين والعمال.
تراجع الطلب على تغليف وتجليد الكتب، لم يكن وليد اللحظة، فقد بدأ مع تراجع إقبال المواطنين على طباعة كتبهم فى المطابع القديمة لصالح المطابع الحديثة التى تعتمد على الآلات أكثر من اعتمادها على البشر، إلى أن أغلقت الكثير من المطابع أبوابها وغيرت أخرى مجالها.
على الجيزاوى، الذى تربى فى مطابع القاهرة و دار الكتب المصرية، يأبى أن يغلق مطبعته أو يغير نشاطها، رغم حالة الركود التى تحاصره منذ سنوات ، ليس أملاً أن يعود الزمن للوراء، ولكن إخلاصاً لمهنته التى تربى عليها ولا يجيد غيرها، والتى يصفها بالمهنة الراقية كونها تتعامل مع كتب ومثقفين.
ماكينات وأدوات الطباعة التى يستخدمها الجيزاوى حتى الآن، ما زالت على حالها منذ عام 1969، عندما فتح مطبعته فى قنا بماكينات طباعة و أدوات تجليد وتغليف كانت فى وقتها طفرة حديثة فى عالم المطابع، لكنها الآن لا تساوى شيئاً إلا عند تجار الخردة كونها تزن مئات الأطنان من الحديد.
قال على دياب أحمد الجيزاوى، 70 عاماً: "كنت أعمل صبياً فى دار الكتب المصرية بالقاهرة منذ أن تخرجت في المرحلة الابتدائية، أتولى جمع الحروف وصفها للطباعة، بجانب تنظيف وتغليف الكتب القديمة حفاظاً عليها من التلف، و فى عام 1969 قررت أن أعيش فى قنا مع أسرتى، وفور مجيئي إلى هنا فتحت المطبعة وكان عدد المطابع قليلا للغاية، لكن كان الإقبال عليها كبيرا جداً.
وأضاف الجيزاوى أن الإقبال ظل كبيراً حتى تسعينيات القرن الماضى، وبدأ يتراجع بشكل واضح بعد 2010 إلى أن أصبح الإقبال فى أدنى حالاته حالياً، ولم يعد يقصد المطبعة سوى من يريد تغليف مصحف تمزقت أوراقه، أو كتاب قديم له أهمية خاصة لدى صاحبه، حتى الأوراق الحكومية والدفاتر لم تعد تطرق باب المطبعة.
وتابع: “الوضع الحالي لا يقتصر على شخصى أو مطبعتى، لكنه وضع عام على كل المطابع القديمة أو التقليدية، بعدما اقتحم الكمبيوتر مجال الطباعة دون رحمة، بجانب الماكينات الحديثة التى تطبع بتقنيات وألوان غير متاحة لمطابعنا وأدواتنا القديمة، ما أدى إلى تنازل المطابع القديمة عن عرشها لصالح الكمبيوتر وبرامجه الحديثة، ما أدى إلى توقف عمل الكثير من المطابع بشكل نهائى وتحويل نشاط أخرى”.
وأوضح أنه رغم الإيجابيات التى تتميز بها المطابع الحديثة، إلا أنها قضت على الدقة والإتقان فى العمل، كما قضت على آلاف الفرص التى كانت توفرها المطابع القديمة، والتى كانت تعتمد على عدد كبير من العمال والفنيين بعكس الحديثة التى تعتمد على الكمبيوتر، وأصبحت المهنة يعمل فيها "كل من هب ودب" دون أن يكون لديه أى خبرة بمجال الطباعة أو الثقافة.
وأكد الجيزاوى أن “مهنة الطباعة كان يعمل بها من يحبها وكانت الكتب تفرض نفسها على العاملين، ما كان يخرج مثقفين ومبدعين من المطابع القديمة، لأننا قديماً كنا نصف الحروف ونرصها بجوار بعضها البعض ونتأمل فى ترتيبها حتى لا يحدث أى خطأ، بعكس اليوم الشاب يضغط على مجموعة مفاتيح ليخرج المنتج حتى دون أن يعرف محتوى الكتاب”.