الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

بداية الرحلة

ننشر فصلا من كتاب "ليفربول المدينة والفريق"

صدى البلد

خلال العام الحالي صدر عن دار العربي للنشر كتاب "ليفربول المدينة والفريق"، للكاتب طارق الجويني، إذ حاول من خلاله قراءة تاريخ مدينة بتحولاتها الاجتماعية والاقتصادية من خلال قراءة المشهد الرياضي بالمدينة وخاصة من خلال فريق “ليفربول”، فهو اعتراف من جانبه بأن كرة القدم أصبحت  جزء من الحضارة الإنسانية بكل جوانبها المعقدة والمتشابكة.


واستمرارًا إلى الدور الذي يلعبه "صدى البلد" لنشر الوعي والثقافة، ننشر فصلا من هذا الكتاب وذلك بالاتفاق مع دار العربي للنشر والتوزيع.

بداية الرحلة
دمنهور 3 مارس 1974 
صحوت في ذلك الصباح البعيد على صوت مميز، كنت قد أدمنت وجوده في حياتي منذ التحقت بلا منطق بهذه الدنيا. صوت ارتبط في عقلي الباطن بمباريات كرة القدم، اللعبة التي أحببتها كأي طفل صغير يمارسها مع أقرانه بالنادي الأوليمبي المصري بالإسكندرية.  

وقتها، كنا مبهورين بعز الدين يعقوب النجم الأول للنادي، أحد نجوم اللعبة في مصر، وهداف وأسطورة الجيل الذهبي الذي فاز بالدوري المصري 1965-1966 بعد منافسة شرسة مع الزمالك، وحينها انتقل الدرع من القاهرة إلى الإسكندرية في سابقة لم يجرؤ أي نادٍ من خارج القاهرة على اقترافها إلى أن فعلها النادي الأوليمبي، ثم تبعه الإسماعيلي وغزل المحلة بعدها بسنوات.


الصوت الذي أتحدث عنه كان مألوفًا،أسمعه في منزل العائلةوخارجه،لأنه لمعلق شهير على مباريات كرة القدم، يميز الناس نبرته في التليفزيون أوالراديو، وظل صدى لصوت الكرةفي وجداني.
إنه صوت الكابتن إبراهيم الجويني، الرئيس الأسبق للنادي الأوليمبي،وأحد أشهر من تولوا رئاسة الاتحاد المصري لكرة القدم، وهومعلمي ومثلي الأعلىوأبي الروحي،والأهم أنه عمي طبقًا لشهادة الميلاد.
كان معروفًا بـ"الكابتن"في كل مكان،ويناديه البعض بـ"سيادة العميد"، لأنه كان عميدًا في القوات البحرية المصرية، ومديرًا للجنة المنظمة لبطولة أمم أفريقيا 1974 لمجموعةالفرق التي تلعب في الإسكندرية ودمنهور.
لم يكن بإمكان الكابتن زيارة دمنهور أوالقيام بأي عمليخص إدارة البطولة قبل المرور على أخته وزيارة أمه،وفي منزل العائلة وجدني، فسألته بسذاجة طفل لم يكن قد وصل للسادسة من عمره بعد:
- حضرتك رايحفين؟
- رايح  الماتش.
- ماتش إيه؟ 
- ماتش كورة.
- فين؟
- في الإستاد.
- ممكن آجي معاك؟
- وتسمع الكلام؟
- أسمع الكلام.
- طيب البس وتعالَمعايا.

لا أتذكر رد فعل جدتي،لكنها على الأغلب تعجبت من طلبي، وتابعتني بنظرة تساؤل وأنا أتهيأ للنزول معه.
أبهرني حجم الإستاد الكبير "إستاد دمنهور" والآلاف الذين كانوا في الملعب،وما أثارني أكثر أن كل اللاعبين كانوا عمالقة من ذوي البشرة السمراء، وكأنهم نسخ مكررة من بطلي الكروي عز الدين يعقوب.
كانت المباراة التي شهدتهافي الملعب بين زائير وغينيا. فازت زائير (2-1) بهدفين من نجمها مولامبا نداي، ثم فاز تبعدها بالبطولة التي نجحت مصرفي تنظيمها بعد أقل من خمسة أشهر من انتهاء حرب أكتوبر 1973، وكانت البطولة هي أكبر إعلان عن عودة الحياة الطبيعية في مصر.وكيف تكون الحياة طبيعية بلا كرة قدم؟

لا أتذكر تفاصيل أول مباراة أشاهدها في الملعب،لكن ماعلق بذهني هو طعم البهجة التي شعرت بها لأيام متصلة زادت من تعلقي بمشاهدة مباريات الكرة،وتحولت الفرجة إلى طقس ثابتعصر كل يوم جمعة، وصرت أسترق السمع لأي حديث أو نقاش يدور في فلك الساحرة المستديرة، ثم أدمنت مشاهدة تدريبات فريق الكرة الأول بالنادي الأوليمبي، وألححت على جدي (والد أمي) الحاج فؤاد النقلي (كبير مشجعي الأوليمبي في ذلك الوقت)لكي يصطحبني معه في كل مرة يذهب فيها إلى الملعب، وبدأت الرحلة بمباراة بين الأوليمبي والمنصورة بالاستاد الذي أصبح اسمه الآن "إستاد عز الدين يعقوب".


فاز الأوليمبي (2 – 0) عام 1975 فيتلك المباراة ورأيت لاعبي الفريق الذين كنت أتابعهم في التدريبات يلعبون ويسجلون ويفوزون، كما رأيت لأول مرة جدي (في منتصف الخمسينيات من عمره في ذلك الوقت) وهو يصرخ ويقفز ويسب ويلعن ويضحك ويحتفل في آن واحد، فأدركت لحظته اأنه ليس "جدي" الذي أعرفه في المنزل،ولكنه شخص آخر مثل أي "مشجع للكرة". ومن أول لمسة سحرية،خلع قناع الجد وعاد لحبه الأول طوال ساعتين متتاليتين،وما إن انتهت المباراة حتى ارتدى قناع المحلل الكروي مع أصدقائه بحديقة النادي إلى أن خرجنا من بوابة النادي وعادت إليه روح الجد مرة أخرى.
وبوعي الطفل، أدركت يومها لماذا تسمى كرة القدم بـ"الساحرة المستديرة" وعرفت أن السحر انتقل إليَّ، عبر عمي "الكابتن" أومن جدي "المشجع"، ثم صرتخلال اليوم الواحد أرى الكرة من زوايا مختلفة، مرة من زاوية المدير أوالرئيس المسؤول،ومرة ثانيةمن زاوية المشجع أوالمحب العاشق إذ أدى أفراد عائلتي كل تلك الأدوار.

بعد أن تعلمت القراءة والكتابة، بدأت وأنا في الصف الثالث الابتدائي أداوم على قراءة الأهرام، باحثًا عن صور اللاعبين وأخبارهم، إلا أن الإعلام الرياضي في ذلك الوقت لم يكن بالكثافة التي نراها الآن، ويعتمد على الراديو في المقام الأول. كانت المبارايات تُنقل من كل الملاعب في الوقت نفسه عبر المحطات الإذاعية المحلية للمدن، أو من إذاعة الشباب والرياضةالتي ينتقل ميكروفونها من ملعب لآخر؛ لنتعرف على آخر الأخبار، ونرصد النتائج مع ملخص المساء الذي كان يقدمه القدير فهمي عمر.
في حين يذيع التليفزيون مباراة واحدة أسبوعيًّا إما للأهلي وإما للزمالك، تبدأ في الساعة 3من عصر كل يوم جمعة، وتُبث دون إستوديو تحليلي، كما لم يكن التليفزيون الملون قد انتشر بين بيوت الطبقة الوسطى، أما الصحافة المطبوعةفقد كانت تنظر إلى الرياضة نظرة استعلائية وتخصص كل صحيفة نصف صفحة فقط لتغطية الرياضة باستثناء صحيفة المساء. كانت الصحيفة الرياضية الأسبوعية المتاحة هي الكرة والملاعب، ثم تبعتها جريدتا الأهلي ثم الزمالك، وكانت هناك جريدة رياضية محلية بالإسكندرية تسمى السفير، ومجلة شهرية كان يصدرها اتحاد الكرة تسمى الكرة المصرية.
وبحس المدمن، كنت أتابع الجميع من أول برنامج ركن الرياضة للكابتن إبراهيم الجويني عبر إذاعة الإسكندرية، حتى الملاحق الرياضية التي كانت تطبعها المجلات الأسبوعية الشهيرة في مصر في ذلك الوقت؛ مثل المصور والإذاعة والتليفزيون وآخر ساعة مع بداية الموسم الكروي،التي تمنح هدايا "بوسترات" للفرق المصرية وكبار نجومها وهم يداعبون الكرة إما بأقدامهم وإما برؤوسهم.. وبالطبع لم يروِ كل ذلك ظمئي لمعرفة ما يحدث في العالم الآخر.

كان "الآخر" بالنسبةلي هوما بعد الخط الفاصل بين "هنا" و"هناك"، أو"نحن" و"هم". لم يكن هناك سبيل في طفولتي إلى ذلك الآخر إلا القراءة كمفتاح وباب لهذا العالم، وماذا عن الساحرة التي مازلت لا أعلم شيئًا عن أسرار عالمها الآخر؟وجدت ضالتي أخيرًا بالصدفة البحتة عند عم فتحي بائع الجرائد بشارع زين العابدين بحي محرم بك بالإسكنرية،حين رأيت عنده مجلة غاية في الأناقة؛ طباعة، وألوان، وصور مبهرة، وعناوين جديدة، ونجوم لا أعرفهم في عالم الرياضة والساحرة المستديرة، إذ كانت أسماؤهم غريبة؛كيمبس،وزيكو، وكرويف، ونيسكنز،ودالجليش،وبلاتيني،وزوف، وماير، وبكنباور، ومولر، وجاسم يعقوب، وماجد عبدالله، ومنصور مفتاح.. أسماء ونجوم وأشكال وألوان لم أعهدها.
وقتها لم أكن أعرفأسماء لاعبين غير مصريين باستثناء بيليه وديستيفانو (لأنهما زارا مصر مع سانتوس وريال مدريد)،وهديكوتي وبوشكاش (اللذين دربا فريقي الأهلي والمصري)، وطارق ذياب وعتوقة (نجمي فريق تونس الذي مثلأفريقيا في كأس العالم 1978 بالأرجنتين)، لذلك كانت صفحات مجلة الصقرالتي تصدر من قطر مثل مغارة علي بابا، تحتوي على الكنوز،والمطلوب مني فقط أن أقول لها: "افتح يا سمسم"، وأنا أدفع ثمنها لعم فتحي وأحصل على العدد الأسبوعي كل يوم أربعاء،وهكذا حلقت بي مجلة الصقر إلى ما وراء البحر استكشافًا لأسرار الساحرة المستديرة في العالم الآخر.

حكاية مدينة
من يصنع الآخر؟ هل تصنع المدن ناسها؟ أم يصنع الناس مدنهم؟ المدن كالبشر تتشابه شخصياتها ولكنها لا تتطابق، وكذلك بصماتها في الحياة. فليست كل العواصم سواء، ولاكل الموانئ متماثلة، ولا كل المدن الصناعية صورة طبق الأصل،ولا كل المدن الزراعية ذات طبيعة واحدة. تقول كتب الجغرافيا والتاريخ إن المدن تصبغ ناسها بطبيعتها وموقعها ومناخها وتاريخها،ويصنع الناس مدنهم بقدرتهم على ممارسة فعل "الحياة"، بداية من طرق كسب العيش مرورًا بالثقافة والفن والرياضة والنضال، الذي قد يكون سلميًّا في بعض الأوقات ودمويًّا في أوقات أُخَر.
وكما قال الدكتور جمال حمدان "الجغرافيا تاريخ ساكن،والتاريخ جغرافيا متحركة"، في الماضي كنا عندما نتكلم عن تأسيس المدن الأوروبية خلال العصور الوسطى؛ نتخيل قلعة وقصر وكنيسة وسوق، أما الآن فإننا نبحث عن المطار والمركز التجاري والإستاد والمتحف والمسرح. ربما تبقى المدن في مواقعها، لكنها تتغيربتغير ناسها، وأنماط معيشتهم، فشخصيات المدن كشخصيات البشر تتطور ولا تتبدل، وبنيانها النفسي تراكمي يبدأ بالعوامل الوراثية ويأخذ طورهويتشكل بالخبرات وتجارب الحياة.
واليوم نجد أغلب المدن تسمي مطاراتها - بوصفها أول وأهم المباني لاستقبال الزائرين بالنسبة لأي مدينة حديثة الآن - بأسمائها أوباسم المنطقة الجغرافية للمطار، وبعضها يسمي المطار باسم زعيم سياسي أوحاكم مثل باريس (شارل ديجول)، ونيويورك (كينيدي)،وإسطنبول (أتاتورك) أوفنان مثل سالزبورج (شوبان) لذلك لا تتفاجأ عند زيارة ليفربول وتجد مطارها يحمل اسم (جون لينون)، لأننا أمام مدينة لها ثقافة فريدة، وكل مافيها له طابع خاص، يعزز اختلافها عن المدن الإنجليزية الأخرى، بما فيها المدن الأقرب لها جغرافيًّا وأولها مانشستر.
من الظلم النظر لليفربول كميناء، رغم عمق تأثيره، لأن طرازها المعماري صاغ لها شخصية فريدة بين المدن الإنجليزية، كما أن موقعها الجغرافي بين النهر والبحر (نهر ميرسيو البحر الأيرلندي) فرض على أهلها  منذ أن تأسست عام 1207 احتراف صيد الأسماك والزراعة، ومن يتأملها على الخريطة يلحظ موقعها المتوسط بين المدن الإنجليزية من ناحية، وأيرلندا وإسكتلندا من ناحية أخرى،وهو ما جعلها مركزًا تجاريًّا بريطانيًّا مهمًّا، وساعد ازدهار تجارة الرقيق بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر على جذب رؤوس الأموال إليها لتصبح عاصمة لهذه التجارة اللاإنسانية.
امتلكت المدينة فرصًا للزهو والتقدم، وحدث توسع في مواردها ساعد على ارتفاع معدلات النمو السكاني بها، وجاء اختراع الماكينة البخارية على يد جيمس وات عام 1769ليطلق فجر الثورة الصناعية الأولى في المملكة المتحدة وطور صناعة القطن لتصبح ليفربول مركزًا رئيسيًّا من مراكز هذه الصناعة الوليدة التي رسمت ملامح القرن بأكمله.
وإذا كان التاريخ يؤكد أن القرن التاسع عشر كان قرن التوسع الاستعماري البريطاني بامتياز، فالمؤكد كذلك أن ليفربول جنت الكثير من المكاسب التي نتجت عن ذلك، وتحولت تدريجيًّا إلى الصناعة والملاحة والتجارة وخدمات الشحن. جاءت مكاسب أخرى عقب الوصول إلى عصر الطاقة المتولدة من الفحم واختراع السكك الحديدية كوسيلة رئيسة لنقل الركاب والبضائع ما ساعد "ليفربول" مرة أخرى على كتابة صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإنساني، مع ظهور خط السكك الحديدية الذي ربط بين ليفربول ومانشستر، وكان أول خط سكة حديد يربط بين مدينتين في العالم،وهكذا تأكدت مكانتها في بريطانيا، كنقطة أولى على مفترق خطوط السكك الحديدية، وقتما كانت عالميًّا مدينة على مفترق طرق التجارة والملاحة البحرية بين آسيا (الهند)،وأفريقيا (مصر وقناة السويس)،وأمريكا الشمالية (نيويورك)، وأوروبا (بحرًا حين كانت بريطانيا جزيرة معزولة لا ترتبط بقارتها برًّا قبل حفر نفق المانش بين بريطانيا وفرنسا عام 1993).
ومع الوقت، أصبح خط كالكوتا- ليفربول البديل الطبيعي لطريق الحرير في العصور الوسطى، ثم اختصرت قناة السويس المسافات والأزمان لوصول منتجات الهند الزراعية. ومن المثير أن الكثير من العاملين بميناء عدن انتقلوا للهجرة والعيش والاستقرار في ليفربول، ثم سيطروا على صناعة وتوزيع الصحف وشكلوا الأساس السكاني للمسلمين الموجودين في بريطانيا بعد دعوة هنري ويليام (عبد الله لاحقًا) للإسلام وبناء مسجد الرحمة، الذي يعد أول مسجد في بريطانيا، عام 1886.
ولعل ذلك يشير بوضوح إلى ثقافة الانفتاح على العالم، التي كانت سمة تتميز بها ليفربول التي تحتضن إلى جانب ذلك أكبر كاتدرائية بريطانية، وخامس أكبر كنيسة في العالم، وأطول الكنائس على الأرض (189 مترًا) وهي كاتدرائية ليفربول الأنجليكانية في شارع جبل جيمس، ما جعل ليفربول المسيحية بعيدة كل البعد عن الصراع الديني الكاثوليكي البروتستانتي المحيط بها.

وسياسيًّا كانت المدينةعند تأسيسها قاعدة مهمة للقوات التي اتجهت إلى أيرلندا، وعاشت حصارًا شهيرًا عام 1643 خلال الحرب الأهلية البريطانية. وخلال الحرب العالمية الأولى، تمركزت بها القوات الإسكتلندية ما طبع المدينة بطابع خاص،حيث لا تزال قصص هؤلاء كاشفة عن تأثيرهم العميق في تاريخ وثقافة المدينة. كما مثلت الحرب العالمية الثانية حجر زاوية في تاريخ ليفربول؛ إذ كانت ثاني أكبر المدن البريطانية تعرضًا للغارات الجوية الألمانية بعد لندن، نظرًا لكونها ميناء الإمداد والتموين الأول منقبل الولايات المتحدة الأمريكية لبريطانيا في أثناء فترة الحرب.
وقد فقدت ليفربول في تلك الغارات ما يقرب من 2500 قتيل، وآلاف الجرحى الذين خُلِّد ذكراهم في الكثير من المشاهد والأنصبة التذكارية، التي ما زالت تعبر عن جراح المدينة في فترة عانت فيها الكثير،ولم يهتم بها العالم كما اهتم بلندن وإعمارها بعد الحرب، فقررت المدينة أن تترك كنيسة سانت لوك محطمة كما هي شاهدة على جرائم الحروب، وآثارها المدمرة على البشر والحجر. إذن، نحن هنا أمام مدينة ذات تاريخ عريق وليست فقط صاحبة واحدة من أهم الفرق الكروية.

المدينة المعاقبة

لم يعرف الأمريكي مالكوم ماكلين الذي اخترع حاويات الشحن عام 1956أن اختراعه قد يوقف نمومدينة، لمجرد أنها لم تستعد تقنيًّا لهذه الخطوة، وتهيئ نفسها لدخول عصر جديد. وهكذا دخلت ليفربول منذ منتصف الخمسينيات مرحلة تراجعزاد من تأثيرها عدم استعداد حكومات المحافظين للاستثمار فيها؛ومن ثَمَّ تراجعت أهميتها أمام موانئ أوروبا المنافسة مثل هامبورج وروتردام، وشهدت ارتفاعًا في معدلات البطالة، وبعد سنوات من الركود، حاولت المدينة إعادة تأهيل عمال الميناء للعمل في وظائف مما أدى إلى الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وقد عبرت رواية "ما زلت هنا" للكاتبة ليندا جرانت عن بعض تلك المعاناة.
ومنذ النصف الثاني من الستينيات، انحازت المدينة بوضوح لحزب العمال الذي وصل للحكم للمرة الثالثة بزعامة هارولد ويلسون (من 1964 لـ1970)، وللمرة الرابعة (من 1974 لـ1976)، وللمرة الخامسة على يد جيمس كالاهان (من 1976 لـ1979). ومع الأزمات الاقتصادية المتصلة التي حلت بالمملكة المتحدة في أواخر الستينيات وفترة السبعينيات. ومع تأصل العداء الذي أصبح تاريخيًّا مع حزب المحافظين في الثمانينيات وأغلب سنوات التسعينيات، أوشخصيًّا مع مارجريت تاتشر، دفعت مدينة ليفربول الثمن غاليًا؛ فأصبحت تعاني من شح الاستثمارات بالمدينة وتراجعت مكانتها وتدهورت مرافقها وتحولت إلى مدينة طاردة للسكان أوفي أحسن الأحوال "مدينة معاقبة" يعاني سكانها من البطالة والفقر في مدينتهم.

وظل الحال على ماهو عليه إلى أن جاء القرن الجديد ببشائره واستعادت المدينة مكانتهامعفوز حزب العمال وتوني بلير (من 1997 لـ2007)برئاسة الحكومة، وكذلكمع خلفه في المنصب جوردون براون (من 2007 لـ2010)وخلال فترة وجيزة، أعيدت لها الروح وضخت الحياة في شرايينها وأشرقت بموسيقاها وثقافتها وكرتها التي تمثل نبضها الحي.

 

"لن تسير وحدك أبدًا" وأسطورة البيتلز

عالج الأدب العالمي (الأمريكي والبريطاني بصفة خاصة) ما يعرف برواية الأجيالالتي نظرت في أحوال أوروبا قبل وفي أثناء الحرب العالمية الثانيةوبعدها، فنعت الجيل الذي ولد في الفترة من 1925 إلى 1945 بـ"الجيل الصامت"،بينما سُمي الجيل الذي ولد في الفترة من 1945 إلى 1964 بجيل "الطفرة الإنجابية"، ثم جاء الجيل الذي ولد من 1965 إلى 1976وسمي بـ"الجيل إكس". لكن الجيل الصام تلم يعد اسمًا على مسمى عندماارتفع صوت ليفربول بالغناءعقب الحرب العالمية الثانية، فأصبحت عاصمة موسيقى البوب في العالم والموطن الأصلي لفريق البيتلز، الذي تربع على عرش فرق الموسيقى والغناء في ستينيات القرن العشرين، ولا يزال هوالمتحدث الرسمي عن الثقافة البريطانية والممثل الشرعي لثقافة أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية في العالم أجمع؛ إذ إن هناك ما يشبه الإجماع بين خبراء الثقافة الجماهيرية أن تأثير البيتلز لم يقتصر على الغناء والموسيقى، بل امتد إلى السياسة والفلسفة وغير قواعد الموضة في كل أنحاء العالم.

قاد الصبية الأربعة الذين قدمتهم ليفربول، ثورة موسيقية وثقافية أصبحت عنوانًا لمرحلة كاملة.وقد وضعت موسوعة جينيس للأرقام القياسية الفرقة ضمن أكثر الفرق الغنائية مبيعًا في العالم، واختارت مجلة تايمز أعضاء الفريق ضمن قائمة الأشخاص المئة الأكثر تأثيرًا في العالم خلال القرن العشرين،ولا يوجد وصف لما فعله فريق البيتلز في العالم أكثر بلاغة مما جاء على لسان أحد أعضائها جورج هاريسون الذي قال:"مافعله البيتلز هوأنهم أنقذوا العالم من الملل".
وبفضل "هوس البيتلز"، عادت بريطانيا لتغزوالعالم من جديد، وأصبحت الموسيقى بديلًا للجيوش البريطانية التي غابت عنها الشمس، بل عد الكثيرون أن وصول زعيم حزب العمال هارولد ويلسون إلى 10 شارع داونينج ليصبح رئيسًا للوزراء كان بفضل البيتلز، الذين أعادوا تشكيل ثقافة المجتمع البريطاني؛ فأصبح أبناء الطبقة العاملة نجوم مجتمع يبيعون ملايين النسخ من أسطواناتهم الموسيقية ويقودون حزبهم إلى سُدة الحكم
حين بدأت حكومات العالم مشاريع إعادة الإعمار في مدن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية،كان شباب العالمي بدأون العمل أيضًا على مشاريع إعادة إعمار مماثلة طالت أنفسهم وأفكارهم ومشاعرهم، وربطتهم بحركات التحرر والاستقلال، وبحركات مكافحة العنصرية والمطالبة بالمساواة، وتزامن كل ذلك مع صعود الحركات اليسارية المطالبة بحقوق العمال والفلاحين ومناهضة الدول الرأسمالية، بحثًا عن أفق جديد للحداثة والإبداع والتبشير بفكر مختلف قلبًا وقالبًا يصل إلى الجميع متخطيًا الحدود كافة متعديًا العوائق والتابوهات الحاكمة كافة من الأجيال السابقة آباءً وحكامًا.


وعلى الرغم من مرور الكثير من السنوات، لا يزال العالم يذكر الجملة الصادمة التي رددها جون لينونحين قال: "نحن أكثر شهرة من المسيح.. أنا لا أعرف من سيذهب أولًا: موسيقى الروك أند رول أم المسيحية؟". وكما هومتوقع، أثار هذا التصريح غضب المحافظين وأشعلالمحتجون النار في أسطوانات البيتلز أمام الكنائس كما وصلت جون مئات رسائل الغضب مطالبة بالاعتذار والتراجع عن هذا التصريح، فكان رد شباب جيله هوطرح سؤال: لماذا نلجأ إلى الأساطير القديمة وأمامنا أسطورة حية اسمها البيتلز؟ لقد كان جون لينون أيقونة جيله في حرية التعبير وكسر كل قوالب التعبير الجامدة في الكتابة،والتأليف، والتلحين، والغناء،والمحرك الأول للثقافة الشعبية الجديدة في بريطانيا ومصدرها الأول إلى شباب العالم، حتى إنه لم يعبأ في أثناء حفل تكريم للبيتلز بحضرة العائلة الملكية البريطانية، وبوجود أثرياء لندن والنخبة الحاكمة بالصفوف الأولى،وخاطب الجمهور طالبًا منهم المشاركة بالتصفيق مع الفريق ساخرًا بقولته الشهيرة:"فلتصفق الصفوف الخلفية معنا، أما الأمامية فيكفي أن تهز يديها لتصدر مجوهراتها الأصوات العالية".