تمرد فؤاد حداد على طبقته البرجوزاية وانحاز بشعره إلى طبقة العمال والفلاحين منتصرًا لقيمة العدالة الاجتماعية، وهو انحياز أمضى به إلى السجن في نهاية الأمر.
امتلك حداد ثنائية بين كونه اشتراكيًا كمعتقد سياسي وكونه صوفيًا كنزوع طبيعي، وهذه الثنائية التي استطاع أن يمسك بين طرفيها هي التي مكنته من الاقتراب من روح الشعب المصري حيث قربته الاشتراكية من فقراء الشعب وقربه التصوف من التصورات الفطرية التي تتكأ علي تسامح الصوفية وبساطتها وزهدها.
لذلك خلال الحوار التالي والذي أجرته "صدى البلد" مع الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد، نحاول من خلاله أن نقترب أكثر من تجربته الشعرية الثرية.
كيف تقيم تجربة فؤاد حداد الشعرية؟
تجربة فؤاد حداد هي تجربة غير مسبوقة، إذ إن تجربته الشعرية والحياتية هي تجربة واحدة، وقد كان بداية اطلاعي ومعرفتي بأعماله -بالنسبة إليّ- بمثابة عالم باهر فُتح لي سنة ١٩٥٤، ولا زلت أتذكر أول بيت قرأته لفؤاد حداد، وقد اعتبرت أن حداد قد قام بفتح ثان للتعبير عن اللغة المصرية العامية، فقبل ذلك كانت الكتابة بالعامية، هي كتابة الزجل وكتابة الأغاني، لكن هنا ظهرت قصيدة شعر حوت بداخلها الإنجاز الذي أنجزته قصيدة الفصحى، لكنها مكتوبة بالعامية، وكانت بداية مختلفة تمامًا للتعبير عن العامية، وهذا بالطبع شيء يختلف عن كتابة الزجل والأغاني، برغم أن فيهم صور رائعة للغاية.
وهل غُيب حداد عن الحياة العامة في فترات ما خلال حياته؟
بالطبع، فما حدث هو أن فؤاد حداد غُيب عن الحياة العامة حين اعتقل لفترات، ومنها الفترة الطويلة التي بدأت من سنة ١٩٥٩ إلى سنة ١٩٦٤، وفي هذا الوقت نضجت تجارب أخرى في العامية، لكن فؤاد حداد ظل مغيبا، فقد كانت تصل لنا أحيانًا قصائده مع أحد زملاءه في المعتقل، وأتذكر جيدًا أنه حين أفرج عن الشاعر سمير عبد الباقي، قبل فؤاد حداد بفترة بسيطة، وكيف أننا وقتها تجمعنا حول سمير عبد الباقي، كي نطلب منه أن يسمعنا شعر حداد، باعتباره أحد رواده داخل المعتقل، وقد كان الأمر بالنسبة إلينا هام للغاية، وأنا أعني زملائي بهذه الجلسة مثل: عبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، ومحمد جاد، وغيرهم، وعندما خرج حداد سنة ١٩٦٤ غيب أيضًا لكن بشكل أخر فقصائده لم تنشر، وقد نشر له صلاح جاهين قصيدة واحدة عن حرب اليمن في الأهرام، فتغيبه هنا كان بسبب أنه لم يكن قريب من صناع القرار في الحياة الثقافية، لكن خلال هذا الوقت أكمل فؤاد حداد كتابته وأثره على عدد كبير من الشعراء فقد التفوا حوله خاصة الشباب، بجانب ترجماته الرائعة لكثير من الشعراء وخاصة ترجمته الرائعة لناظم حكمت والتي كانت عن بورسعيد.
ثم بعد ذلك بدأ فؤاد حداد يُعرف بشكل أكبر، وتحديدًا حين كتب "الأرض بتكلم عربي"، ثم عرف أكثر وأكثر حين كتب نصوص المسحراتي، لكن هذه ليست تجربة فؤاد حداد الكاملة، فتجربته الكاملة يمكن أن نطلع عليها من خلال الاطلاع على إبداعه، فهو واحد من مؤسسي القصيدة الحديثة في عصرنا.
هل حداد وجاهين هما البداية الحقيقية لشعر العامية في مصر، أم أن شعر العامية هو امتداد للتراث المتوارث منذ قرون طويلة؟
هناك شعر بالطبع ممتد من التراث، فالتراث هو أحد الفروع التي غذت شعر العامية، وهو مثل الأنهار الصغيرة التي تروي في النهاية النهر الكبير، لكن يمكنني القول أن فؤاد حداد وصلاح جاهين، هم من أسسوا كتابة القصيدة بالعامية، وهذه فعلا مسألة مختلفة، فلويس عوض في ديوانه أرض الجحيم -والذي أحب مقدمته جدا- كتب خلاله قصائد بالعامية سنة ١٩٤٨ لكن أثرها شعريا كان ضعيفًا، لكن أثر هذا الديوان بشكل نظري كان رائع للغاية بالنسبة لمن قرأوه، وقد كان دفعة قوية حينها لهم، ليكتبوا بالعامية، ومن هنا يمكن القول بأن فؤاد حداد لعب دور أساسي في تأسيس قصيدة العامية.
لماذا انحاز حداد للشعب فهو ابن لطبقة عليا، هل كان انحيازه طبيعي، ولماذا أيضا تأثر بالاشتراكية؟
كي أجيب عن هذا السؤال بالطبع يجب أن أقوم بفك تركيباته هذه، فحداد هو واحد من جيل كبير من الكتاب والمثقفين والمفكرين، الذين انحازوا للتفكير الإنساني، أو كي نكون أكثر دقة فقد انحاز للتفكير الاشتراكي، والوقوف مع قضايا الناس، فطبقته الاجتماعية لم تمنعه من أن يؤمن بأفكاره، فكانت المسألة واضحة جدا خلال أربعينيات القرن الماضي، وقد كان هذا اختيار؛ فإما أن تقف مع الناس وإما أن تقف مع الملك، وإما أن تقف مع الاستعمار أو أن تقف مع الناس، فهذا الأمر كان نتاج للفترة الليبرالية الوحيدة التي عاشتها مصر طوال تاريخها، والتي تبدأ من سنة ١٩٢٨ إلى سنة ١٩٥٤، ونتيجة لهذه الفترة التي نشأ فيها سلامة موسى وطه حسين، وغيرهم؛ فهؤلاء كانوا نتاج لحقبة مصر الليبرالية المتحررة، والتي أرادت التخلص من الاستعمار ومن أعوانه في الداخل، فقد كان للناس حينها وجهة نظر متماسكة، لذلك لا أستغرب من تصرفات حداد أبدا بل كان الأمر طبيعي في أن ينحاز لعامة الشعب.
أما فيما يخص التصوف، فقد كان جزء من مكون فؤاد حداد، وقد ظهر الأمر بعد ذلك وبشكل واضح خلال أعماله.
تعتقد أنه يمكن تصنيف شعر حداد لمرحلتين؛ ما قبل دخوله للسجن وما بعده؟
أبدًا فكتابته لم تتغير أبدا سواء قبل أو بعد أو أثناء وجوده داخل السجن، فقد كتب نواحي في تاريخ مصر وهو في الداخل، فعندما أرادوا أن يحتفوا بعيد ميلاد المناضل زكي مراد، كتب حداد وقتها داخل محبسه سنة ١٩٦١ "الليلة يا سمرا" وهي مستوحاة بالطبع من أغنية شعبية نوبية، لكنه كتبها في السجن، وهي فيها الكثير من جو البهجة والفرح، وعندما خرج من محبسه لم يتغير أبدا فلا يوجد أي فصل بين فؤاد حداد ١٩٥٤ وفؤاد حداد ١٩٦٤ إلا ازدياد النضج الفني.