حلت منذ أيام الذكرى الخمسين لاستعادة الصين مقعدها الشرعي في منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، بعد أكثر من عقدين ظلت سلطة تايوان هي الممثل الحقيقي لكل البر الصيني الرئيسي في المحافل الدولية، على الرغم من أن الاتفاق الذي تم بين الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ونجم عنه إعلان القاهرة عام 1943، وخلاله اتفق الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل وقائد الجيش الصيني تشانغ كاي شيك، على أن كل الأراضي التي احتلتها اليابان يجب أن تعود رسميًا لسلطة البر الصيني الرئيسي.
وأيد الاتفاق الذي تم في العاصمة المصرية إعلان بوتسدام 1945 للحلفاء المنتصرون، لكن واشنطن والعواصم الغربية أصرت بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، على أن تمثل سلطة تايوان "وهي منطقة إدارية صينية ذاتية الحكم"، الصين كلها في المحافل الدولية، بناء على نتائج الحرب الباردة بين واشنطن وعواصم الغرب من ناحية والاتحاد السوفيتي من ناحية أخرى، وجنوح الحكومة المركزية الصينية ببكين إلى معسكر السوفيت، فضلًا عن وقوف بكين مع الفيتاميين في حرب فيتنام، ومع الكوريين في الحرب الكورية ضد جيوش حلف شمال الأطلسي "الناتو".
وبعد التقارب الصيني الأمريكي مطلع السبعينيات، وتزايد حركات عدم الانحياز وزيادة عدد الدول المستقلة عن الاستعمار، حصلت حكومة بكين على حقها الشرعي المسلوب، وتم التصويت على ذلك في مثل هذه الأيام بالأغلبية في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، من 76 دولة في مقدمتها مصر.
في أحد لقاءاتي مع الأستاذ حسين إسماعيل الخبير المخضرم في الشئون الصينية، تطرق الحديث إلى تايوان، ووقتها كان يدور في ذهني سؤال مهم، وهو ما سبب الهجوم المستمر من الفاتيكان ضد الصين، وهنا أوضح الأستاذ حسين لي أن سبب المناوشات التي تحدث كل فترة بين الفاتيكان والحكومة الصينية، أن الحكومة تتمسك بما يسمى بالذاتيات الثلاثة، وترى أن تعيين أسقف كنيسة أو مطران بالكنيسة الكاثوليكية من سلطة الجمعيات الدينية المسيحية فقط، وتقره الحكومة بدون تدخل، مع السماح بالحق في بناء دور العبادة لجميع أصحاب الأديان، في حين ترى الفاتيكان أن بابا الكنيسة الكاثوليكية هو من له الحق في ترسيم القساوسة واختيارهم، مضيفًا أن الفاتيكان إحدى الدول الخمسة عشر التي لا تزال على تعترف بتايوان (جمهورية الصين) كممثل لكل الصين ضمن 15 دولة أخرى لا تعترف بحكومة بكين وتعترف بتايوان كممثل لكل الصين، ولعل رسالة رئيسة حكومة تايوان تساي ونغ إن لبابا الفاتيكان بعد فوزها بالانتخابات عام 2020 سياسية أكثر منها دينية.
هنا طلبت منه شرح مفصّل لأزمة تايوان، فقال إنه لابد أولا من معرفة تاريخ نشأة المشكلة، التي بدأت مع هزيمة حزب الكومينتانغ (الحزب الوطني الصيني) وانسحابه عام 1949 إلى جزيرة تايوان مطلقًا عليها اسم جمهورية الصين وهو الاسم الرسمي للجزيرة فيما أسس الحزب الشيوعي جمهورية الصين الشعبية ببكين في نفس السنة، وظل الكومنيتانغ يحكم منفردًا حتى عام 1986 سُمح وقتها بتعدد الأحزاب فظهرت أحزاب أخرى منها الحزب الديمقراطي التقدمي الذي فاز منه تشين شوي بانتخابات عام 2000 لفترتين حتى 2008.
ثم عاد الكومينتانغ ليحكم الجزيرة من 2008 حتى 2016، لكي يعود الحزب التقدمي للحكم من خلال تساي ونغ إن التي فازت في الانتخابات الأخيرة عام 2020، وأنه رغم الخلاف التاريخي بين الكومينتانغ والحزب الشيوعي إلا أن الأول يعتبر الجزيرة جزءًا من الصين بل بعضهم يذهب إلى أنهم الصينيون الحقيقيون لأنهم متمسكون بالتقاليد الصينية كما أنهم من حكموا الصين بعد ثورة تشيهاي 1911، وكان حكمهم مطلقًا منذ عام 1928، ومنذ تأسيسها ظلت تايوان تحتل مقعد الصين بالأمم المتحدة حتى عام 1971 عندما حلت جمهورية الصين الشعبية محلها بكافة المنظمات الدولية.
وظل عدد كبير يعترف بجمهورية الصين "تايوان" منها مصر التي قطعت علاقاتها معها عام 1956 وأقامت علاقات دبلوماسية مع بكين، ولكن ظلت دول كثيرة تفضل أن تكون علاقتها مع تايوان عن بكين بفضل ما يعرف بـ"دبلوماسية الدولار"، من منطلق الإمكانيات الاقتصادية الكبيرة لها حيث أن تايوان التي كانت إحدى النمور الآسيوية الصاعدة في التسعينيات قادرة على إغراء أي دولة بأن تعترف بها مقابل انتعاش اقتصادي وبضائع رخيصة واستثمارات.
ولكن بعد صعود بكين اقتصاديًا بشكل قوي ومتسارع تحولت معظم تلك الدول للتعامل مع بكين وبقيت 15 دولة فقط حاليًا، لكن الإجراءات الحمائية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أفادت تايوان ومنحتها انتعاشة كبيرة لأن بضائعها نفذت للسوق الأمريكية بعيدًا عن العقوبات المفروضة على نظيرتها الصينية، وأن الحزب التقدمي يلعب على المشاعر الشعبوية ومعظم من اختاروه مؤخرًا من الشباب وهم الجيل الجديد الذي ولد في تايوان وروابطه بالصين أضعف كثيرًا، فضلا عن أن سبب اختيارهم تساي ونغ إن وعودها الشعبوية بالاستقلال عن الصين، وهو أمر لن تستطيع تحقيقه.
بالنسبة لبكين "والكلام لا يزال للأستاذ حسين"، فإنها تعتبر تايوان مقاطعة صينية أو تحديدًا منطقة إدارية ذات طابع خاص وفقًا لمبدأ "دولة واحدة ونظامان" المتفق عليه والمطبق على هونغ كونغ ومكاو أيضًا، وتصر بكين في كل خطاباتها الرسمية على أن إعادة توحيد الصين مسألة أساسية وأنها لن تدخر وسعًا لمنع انفصال تايوان حتى لو أدى الأمر لاستخدام الحل العسكري، وأن الروابط بين تايبيه وبكين كبيرة فكثير من عائلات تايوان تنتمي إلى بر الصين الرئيسي وكثير من المستثمرين لديهم أعمال هناك، وفي المقابل نجد صينيون يسافرون من البر الرئيسي لتايوان في رحلات سياحية، وهناك منظمات مشتركة.
وفي فترات حكم حزب الكومينتانغ كان هناك تفاهمات واسعة بين الجانبين، لكن التحول الحقيقي في العلاقة على جانبي مضيق تايوان حدث عندما فاز تشين شوي بانتخابات 2000 حيث تبنى خطاب عنيف ضد بكين، وكان أول من لوح بفكرة استقلال الجزيرة، ثم استمر الأمر بفوز تساي ونغ إن، ولكنها في النهاية مناوشات لا تغير حقيقة من حقيقة أن تايوان جزء من الصين والأخيرة لا تسمح بالانفصال عنها وفقًا لمبدأ "دولة واحدة ونظامان"، وتعارض دائمًا أي تواصل بين تايبيه والدول الخارجية إلا من خلال بكين.