الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

«بجواركَ.. بينما تمطر».. قصة قصيرة للروائي محمد عبد المنعم زهران

الكاتب محمد عبد المنعم
الكاتب محمد عبد المنعم زهران

اختص الكاتب محمد عبد المنعم زهران،  الحاصل على المركز الأول بجائزة الشارقة للإبداع العربي – الدورة الخامسة 2002، موقع «صدى البلد» بقصة قصيرة بعنوان " بجواركَ بينما تمطر"- وإلى نص القصة:

    قلت لك أن نذهب قبل أن تتجمع السحب، كان ينبغي مغادرة البيت والذهاب إلى حيث لا توجد أمطار وسحب، إلى صفاء الجنوب أو الشرق دائمًا، أما الشمال والغرب فكل الأهوال تأتي من هناك، محملة فى بعض الأحيان بكرات من الثلج فى حجم ليمونة صلبة وقاسية.

       قلت لك أن نذهب ولكنك رفضت بإصرار لمجرد أن قراءة طالعك قد أنبأتك بخطورة القيام بأية رحلات مفاجئة في هذا اليوم. 

فى هذا الصباح كنتَ واقفًا فى الشرفة ، واستطعتَ أن ترى السحب قادمة من أقصى الغرب، تحركاتها بطيئة ومكتومة كبوادر جيش لا يمكن التكهن بمدى ضخامته، ولكنها بعد وقت قليل ستملأ السماء وما تلبث أن تراها مخيمة فوق رأسك كظل مارد. فى هذه اللحظة لن تجد سبيلاً إلى قمع رغبتك فى التقيؤ المتواصل كعادتك حين تُمسك السحب السماء وتقبض عليها مثل فكّي تمساح .

     لم يكن الأمر ينبئ بأي شئ قبل ذلك ، ففي الليلة قبل الماضية كانت السماء صافية والنجوم تتألق على نحو رائع، وفى الصباح الذى يليه كانت السماء صفحة زرقاء نقية تتخللها الأشعة الذهبية للشمس ، لذا فقد كنتَ فى صفاء روحى لا يقارن، وكنت تضحك وتبتدع النكات وعاودتك الروح الساخرة الفجة ، فسخرت حتى منى أنا ، أخوك الأصغر الذى كرس حياته لخدمتك والسهر على إخماد قلاقلك ، سخرتَ من جوربى المثقوب حين نزعتُ حذائى لأجلسَ بأريحية معك على أريكتك ، إذ كنت فى صفاء نفسى لا يُضاهى ، وأحببتك .. أحببتك جداً فى هذه اللحظة لأن السماء كانت صافية جداً .

      أحياناً كثيرة أغضب منك فأعود إلى بيتنا القديم بحارة المودة ، أبقى يومين أو ثلاثة ، ثم ترسل إلىَّ السيارة فأركبها وأعود إليك . مرات كثيرة كنت أقسم أنى لن أعود ، ولكننى كنت أعود فى كل مرة . وفى المرة الأخيرة وبينما أهبط من سيارتك ، أوقفنى الجيران .. كانوا يسألون عنك وعن حالك  " أين هو....  ؟ "  " ... لم نعد نراه ؟! " 

   كانوا يعرفون أنك تقضى الشتاء فى أسوان لأنك تكره البرد ولأنك مريض ، فقلتُ : إنك مسافر ، ولم أقل لهم قط : إنك ترهب السحاب والأمطار والطوالع السيئة  ، ولكن بائع الفول فى الدكان المقابل أشار إليك وكنتَ قد خرجت إلى الشرفة مرتدياً " روباً " حريرياً أزرق ، وحول عنقك " كوفية " سوداء وعلى عينيك نظارة شمس ، فتطلعوا مشدوهين إليك ، وأنا نظرتُ إليهم وهم يتطلعون إليك ، ثم تطلعتُ إليك وكنتَ قد دخلت دون أن ترد تحيتهم ، ثم عاودتُ النظر إليهم وهم يبتعدون : " لم نلفت انتباهه أكيد " 

 " أكيد لم يسمعنا " ...  " بالتأكيد لم يلمحنا "  .

    فى الليلة الماضية ، مرت سحابة صغيرة ، وفى مسارها البطئ كانت النجوم تتوارى ، لذا فقد أمكننى تفسير تلك التقلصات التى انتابتك فى قولونك .

.      .     .

    لماذا لا يكون عادياً يا نرجس ، لماذا لا يكون طبيعياً فحسب مثل كل البشر على الأرض ، فيتزوجكِ بعد أن فكرَ فى أن يُحبكِ . كان يفكر فى أن يحبك يا نرجس ، هل تصدقين ؟ 

      يجب أن تصدقى لأننى أنا الذى أقرر لكِ هذا ، ولكنه نبذك منذ أن عرف أنكِ برج الأسد وبدأ يعاملك معاملة جارية . لن يكون بإمكانك تفسير هذا أبداً ، ولكن ربما كان عليكِ أن تدركى قوة تأثير الأبراج فى أشخاص محددين كأخى ، حاولت إقناعه مراراً بأنه من الممكن ألا يكون تاريخ ميلادك حقيقياً ، كأن تكونين فى الواقع قد وُلدت قبله أو بعده بأيام أو أسابيع ، قلتُ له بأنه لا ينبغى التعويل على مسألة الأبراج هذه ولكنه قال فى يقين : 

انظر .. إنها جريئة وقوية ، وتملك الدهاء اللازم .. وهذا مكمن خطورة المرأة الأسد .. 

     كنتُ لا أفهم ولكنه نظر إلى عينىّ مباشرة :

إذا ما جاء اليوم الذى تضطر فيه إلى الاقتران بامرأة الأسد وإذا لم تكن أسداً أيضاً ، فبإمكانك التمرس على أداء الواجبات المنزلية الصعبة لأنك ستكون منوطاً بأدائها على أكمل وجه ، لا لشئ سوى كسب ودها ورضاها وابتسامها الساحر .. آه .. تلك المرأة الساحرة ..

قال : إنك امرأة ساحرة .. قالها يا نرجس فلا تبتئسى .. 

.    .   .

    هاهى السحب تتجمع فى غيمة هائلة .. تتجمع لا لشئ إلا لتُسقط الأمطار الكريهة التى ستجبرك على أن تتعرق من كل جسدك ، وأن تدمع عيناك دون إرادة ، والتى من المؤكد أنها ستجبرك أيضاً على الانزواء فى فراشك منكمشاً وفارداً على جسدك المرتعش أغطيتك السميكة .. كقنفذ مذعور . 

     إذا كنتُ أريد أن أقول لكَ بأننا كان ينبغى أن نذهب ، وإذا كنتُ أريد أن أعنفكَ لأنكَ اخترت الإنصات إلى طالعك اليومى القذر والذى يشبه عملاً شيطانياً فى نظرى ، وإذا كنت أريد أن أصفعكَ وأصرخُ فى وجهكَ .. فكل هذا لأننى وأقول ذلك بانكسار غير القادر على فعل شئ .. أقولها بلطف وخوف : كل هذا لأننى لا أريد تكرار تجربة البقاء بجوارك بينما تهطل الأمطار فى الخارج .

     إذا كنت أكتبُ ، فلا تظن أننى أكتب بطريقة عبقرية ، فى الواقع أنا أكتب مسيئاً لنفسى بالأساس ، إذ لم أكن أرغب فى الكتابة عن شئ أكرهه . لكنك لم تترك لى الفرصة وكان علىّ قول كل ما اختزنته وخبأته طوال أعوام لكى أشعر براحة .

لم يتسن لنا الوقت لنذهب لأى مكان بعيد لا توجد فيه سحب وأمطار ، وبالتحديد لا يكون مرتفعاً لأنك تخشى الأماكن المرتفعة ، ولا ضيقاً لأن لديك " فوبيا " الأماكن الضيقة ، سأبقى إذاً بجوارك بينما تمطر . ولكن أين يمكن أن أذهب بك ومعك ، وأى مكان فى هذا العالم يبدو مناسباً لتقلباتك ، حتى الأيام التى قضيناها فى ريف الصعيد الجميل ، حيث لا سحب ولا أمطار .. تظل أنت ، فمجرد عبور قنطرة من جذوع الأشجار على مجرى مائى صغير يصيبك بالرعب ، وترتعش عيناك وتظل فى وسواس دائم بأنك ستسقط . 

.     .    .

       آه .. ها هى السحب تمر فى طريقها إلى الشرق ، ولما لم يكن بإمكاننا الهروب واستباقها إلى الشرق ثم خداعها والالتفاف حولها والعودة من الغرب بسبب طالعك البغيض ، لما لم يكن بإمكاننا ذلك ، فأنا مجبر على البقاء بجوارك بينما تمطر ، محاولاً تفسير كل أعراضك المرضية الوهمية والتفكير فى إذا كانت بوادر المغص الكلوى ناتجة عن التهاب الكلى أو من حصوات المسالك البولية ، ثم الدوار والصداع المتخيل والسخونة والتعرق وألم العضلات والأعصاب ، ودقات القلب المتسارعة والمحتاجة إلى ضبط ، ثم بعد ذلك الجنون المتواصل بقياس الضغط كل عشر دقائق ، وحالة التنفس والحلق والحنجرة وتلك الزغللة فى العينين ، والطنين فى الأذن ، وتقلصات الكبد والمرارة ولدغات الزائدة . ثم بعد ذلك الإسهال بأنواعه المختلفة والمراقبة الدقيقة للون البول ، إلى جانب المتابعة المستمرة لنسبة السكر فى الدم ، وصورة الدم الكاملة وآلام الأسنان ، وشعرك الذى توقف عن النمو فى صدرك لمجرد أنها تمطر ، ولمجرد أنها تمطر تبدأ إجراءاتك الاحترازية ... 

        ثلاث حبات من الثوم فى الصباح وقبل الإفطار ، كذلك جرعتان من العسل الأسود للرئتين ، وخليط الثوم والزنجبيل والعسل لغسل الكبد ، وكوب الشعير المغلى مختلطاً بأعشاب حلف البر للقضاء على أية تجمعات مستقبلية لأملاح فى الكلى ، ثم مطحون حبة البركة ممزوجاً بغذاء ملكات النحل ، ثم كوبان من الشاى الأخضر .. 

      لقد أصابنى الإجهاد .. فلن أحاول ذكر بنود ما قبل الغداء وما بعده وما بعد العشاء ، ووضعيات النوم ، وأنواع الوسائد ، ودرجة سمك الأغطية وأجهزة طرد الناموس وغسل الأرضيات بالمطهرات كل ساعة ..

لقد أصابنى الملل .. وكنتُ أريد أن أقول لكَ هذا .. وكنت أريد أن أقول كل شئ ، ولكنك لم تترك لى الفرصة ، فقد متَّ ، هكذا فقط  . 

     هكذا تتسبب فى غيظى ، فلم تخبرنى بأنك ستموت ، كنت جالساً بجوار فراشك على مقعدى السريرى ، واندهشت لأننى استطعت النوم المتواصل من الثانية صباحاً حتى الحادية عشرة دون أن تلكزنى بعصاتك الممتدة من الفراش إلى الكرسى ، والمصوبة إلى جنبى تماماً . وعندما استيقظت رأيتك مقيداً فى فراشك من قدميك حتى رأسك بحبل محكم الربط ، وفى فمك منديلى القماشى القذر . وتذكرت أخيرا أننى أحكمت ربطك لأتمكن من النوم والراحة لساعة واحدة ، بعد ثلاثة أيام من اليقظة المريرة قضيتها بجوارك بينما تمطر . 

    بعد أن نزعت الحبال من حول جسدك انتظرت قليلاً ، باحتمال أن تعاود طلباتك اللعينة ، ولكنك لم تعاود طلب شئ . متَّ هكذا فقط . 

     وماذا بعد أن أفرغت شحنتى فى قلمى الذى سطر على جسدك العارى كل ما كنت أرغب فى قوله إليك وأنت حى ، ولكننى ولأجل المحافظة على طريقتك المنتظمة فى الحياة ، فقد سطرت سطوراً مستقيمة على جسدك ، وكتبت بانتظام دون نزول عن السطر ، وللحفاظ على كل ما كتبته على جلدك فقد مررت عليه ببكرة " سلوتيب " شفاف .. هكذا كان جسدك العارى لامعاً بكلماتى وبكل ما كنتُ أرغب فى قوله ، ربما يكون مسلياً لك فى عالمك الآخر .. 

      وبعيداً عن التعقيد فقد حملتك فى ليلة صافية لا سحب فيها ، تشيعك آلاف النجمات ، ثم رفعت غطاء البالوعة وقذفتك فى المجارى .

      بعد قليل ستختفى إلى الأبد ، وما الضير .. لقد جهزت كل شئ ، وإذا ما سألنى أحد ، أقول – إذا – سألنى أحد عنك ، سأقول بكل بساطة : إنك عثرت على مكان لا توجد فيه سحب وأمطار وطوالع سيئة .. وقررتَ البقاء فيه للأبد .