الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في ذكرى ميلاده.. رغم الرحيل «صلاح عيسى» باقٍ بحكاياته المنسية

صلاح عيسى
صلاح عيسى

على الرغم من رحيل الكاتب الكبير صلاح عيسى، الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده، إلا أنه ما زال باقي حارس الرقة والحكايات المنسية بين الكتب القديمة وأروقة التاريخ، حيث أنه يعد أهم مؤرخ غير أكاديمي يتزعم مدرسة التاريخ الاجتماعي، الذي فتش ونقب في تجاعيد الماضي وصنع حكاياته عن الاستبداد وعن الأبطال المنسيين، كما أنه حوّل حكايات المقريزي وابن إياس من قصص صعبة اللغة مدفونة في كُتب تاريخ علاها التراب إلى باب صحفي يثير الإعجاب والقلق.

 

مولد حكاء ومؤرخ

وُلِد صلاح السيد متولي عيسى عام 1939 في قرية بشلا، التابعة لمركز ميت غمر في محافظة الدقهلية المصرية، ونشأ في بيئة «فسيفسائية الفكر»: فالأب وفدي وعمه ينتمي للحزب المنافس الأحرار الدستوريين، بينما انضم عمه الآخر إلى جماعة الإخوان، أما الأم فهي أمية لا تجيد الكتابة ولا القراءة لكنها تعشق الكتب وتحرص على اقتنائها، وبعدما شبَّ وأتقن الطفل صلاح فنون القراءة والكتابة لعب كثيرًا دور الراوي لها، وكان يقرأ عليها كُتب "سير الأنبياء".

ويلخص هذا المشهد جانبًا كبيرًا من تجربة الرجل الإبداعية، فهو لا يتوقف عن حكي السير مع اختلاف طفيف في الجمهور الذي لم يعد مقتصرًا على أمه ولكن على كل قرائه بكل الأنحاء، وحكى صلاح أنه شهد في طفولته "فترة الأربعينيات" مصر وهي تتعمد بالدمِّ، بسبب سلسلة الحروب المتتالية التي عاشتها المنطقة خلال هذه الفترة.

في العام 1948م غادر قريته إلى القاهرة حيث تكشف له عالم جدي بالغ الاتّساع، وسمع فريد الأطرش وعرف من أصوات الإنذارات والقصف المدفعي، لأول مرة، أن مصر تخوض حربًا لحماية أرض أشقائنا في فلسطين، ولعب عمه "الإخواني" دورًا في التقارب الذي أبداه صلاح مع الجماعة في صغره، إلا أنه سرعان ما طلقها بالثلاثة منطلقًا في جنبات الفكر يتأرجح يمينًا ويسارًا حتى استقر على اليسار وسخر له قلمه وعقله، وبدءًا من العام 1956م راح يكتب الدراسة الواحدة تلو الأخرى حتى ذاع صيته بعد تخرجه، وتنبأ الجميع بأن صحفيًا وكاتبًا كبيرًا قادمًا في الطريق.

 

الثورة العرابية.. بداية مؤلفات صلاح عيسى

أصدر صلاح عيسى أول كتبه بعنوان "الثورة العرابية" عام 1979 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويعد الكتاب «محاولة لفهم وإنصاف هذه الظاهرة التاريخية "الثورة العرابية" من خلال المنهج الاشتراكى العلمى بعيدًا عما تعرضت له من أحكام قاسية واتهامات شديدة صدرت عن المنهجين الأخريين المدرسة الاستعمارية والمدرسة القومية»، ويناقش ويرصد صلاح عيسى في دراسته للثورة العرابية (من خلال عدة فصول) «الاحتكارات الاوربية من الاحتلال السلمى إلى الغزو المسلح والخريطة الاجتماعية والفكرية للثورة ومسألة السلطة وأخيرا الجبهة الثورية من الوحدة إلى التفتت». وقد جاء الكتاب في 612 صفحة، واعتمد عيسى في كتابته على مذكرات قادة الثورة العرابية وعدد من الوثائق التاريخية المصرية والإنجليزية والفرنسية.

كما يستعرض صلاح عيسى في كتابه "شخصيات لها العجب" (الصادر عن دار نهضة مصر سنة 2010) 50 شخصية من النخب السياسية والثقافية والفنية المصرية التي لعبت دورًا ملحوظا في الحياة العامة المصرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومن بين تلك الشخصيات: الملك فاروق – فتحي رضوان – عبد الرحمن الرافعي – فؤاد سراج الدين – مصطفي بهجت بدوي – طه حسين – – حسن البنا – عبد الرحمن السندي – حسن الهضيبي – أكرم الحوراني –  الدكتور مراد غالب – عبد الناصر وعبد الحكيم الصداقة الدامية – محمد حسنين هيكل – ثوار يوليو – عبد اللطيف البغدادي – أحمد بهاء الدين – بطرس غالي  – فؤاد مرسي – لطفي الخولي – نعمان عاشور – محمد سيد احمد – يوسف ادريس – عبد العظيم أنيس – لطيفة الزيات – يوسف وهبي – يوسف السباعي – كرم مطاوع – فريد شوقي.

وفي كتابه "رجال ريا وسكينة"، استطاع صلاح عيسى أن يسرد وقائع قضية "ريا وسكينة" «بشكل صحفى دقيق من خلال التطلع والبحث في الدفاتر القديمة»، وتناول الحدث بواقعية ودون إضافة الطابع الكوميدي أو التراجيدي أو الدرامي كما تم في أعمال أخرى غطت القضية.

وفي كتابه التاريخي المكتوب بأسلوب صحفي "رجال مرج دابق"، والذي تم تشبيهه بكتاب المؤرّخ المصري المملوكي "ابن إياس" "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، اعتبر عيسى أن رجال مرج دابق هم «الخونة من رجال مماليك السلطان "قنصوة الغوري" الذين باعوه للسلطان العثماني "سليم الأول"، فكانت هزيمة المصريين والشوام، ثم رجال السلطان المملوكي الأخير "طومان باي"، الذي شنقه "سليم الأول"، تحت "باب زويلة" في القاهرة، ثم انتهى الأمر باحتلال عثماني مظلم دامٍ للمنطقة العربية حوالى أربعة قرون».

 

صلاح عيسى.. جيل المؤرخين الهواة

ووفقا لسيد محمود، فقد انتمى صلاح عيسى لجيل من المؤرخين، يوصف في الكتابات الأكاديمية بـ«جيل المؤرخين الهواة» وضم معه مؤرخ آخر هو طارق البشري، و«قد تحررا معا من أساليب الكتابة الأكاديمية الجامدة إلا أنهما لم يتحررا من شروطها في التحرى والتدقيق»، وقد لعبت مجلتا «الطليعة» و«الكاتب» خلال النصف الثانى من الستينيات دورا ملحوظا في تقديم هذا الإنتاج الأدبي و«بلورته في سياق ملائم للتغييرات التي كانت تشهدها مصر آنذاك».

وعلى الرغم من أن صلاح عيسى معروف بميوله اليسارية، ولكنه -وفقا لعلي أبو الخير- كان كاتباً وصحافياً وأديباً مؤرّخاً منفتحاً على كل التيارات الفكرية الليبرالية والإسلامية، وقد اتضح هذا الانفتاح أثناء عمله كرئيس تحرير جريدة "القاهرة" الأسبوعية، «فقد فتح الباب لكل الاتجاهات لعرض أفكارها، كتب فيها يساريون وليبراليون وكتّاب من الإسلاميين من جماعات الإخوان المسلمين ومن الشيوعيين ومن كتّاب الشيعة أيضاً».

 

صلاح عيسى: رابطة صناع الطغاة لا مكان لها في عصر الرئيس السيسي

وفي حوار له سنة 2017، جادل صلاح عيسى بوجود ما أسماه "رابطة صناع الطغاة" في كل عصر وزمن، وأنها «تسعى لمحاصرة  الحاكم وعزله عن الأمة والمؤسسات الشرعية، وإضفاء قداسة عليه»، وقال: «هي موجودة الآن في مصر سواء كانت جماعات أيديولوجية أو مؤسسات، وتضم جماعات متعددة من المنتفعين، وروجت في مصر منذ زمن ولا تزال  لفكرة المستبد العادل مع كل حاكم جديد، وهي فكرة ثبت خطأها بالتجربة وتؤدي الي كوارث في عالم لم يعد فيه مكان للحكم الفردي، ومحاولات هذه الرابطة مستمرة مع الرئيس السيسي، ولكني أعتقد أنه مدرك لها تماماً، لأن نظام الرأي الواحد لم يعد قادرًا علي البقاء والصمود في عالم  ثورة الاتصالات والقرية الكونية الواحدة، لذلك أتصور أنهم مهما فعلوا لن يحققوا أهدافهم بعد ثورتين عظميتين».

 

أكثر من 20 مؤلفًا للكاتب صلاح عيسى

صدر للراحل أكثر من 20 كتاباً ومقالات عديدة في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي والأدب منها:

تباريج جريج، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1988، شاعر تكدير الأمن العام : الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم : دراسة ووثائق، دار الشروق، لقاهرة، 1999، المسألة التيوقراطية في المنظورين الطبقي والقومي، المستقبل العربي. مج. 1، ع. 1 (أيار 1978)، ص ص. 57-67، مثقفون وعسكر: مراجعات وتجارب وشهادات عن حالة المثقفين في ظل حكم عبد الناصر والسادات، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1986، البرجوازية المصرية ولعبة الطرد خارج الحلبة، دار التنوير، بيروت، 1982، نزار قباني في مشجبة شعراء النكبة والألسطة، 1995، محاكمة فؤاد سراج الدين باشا : حين وضعت ثورة عبد الناصر ثورة سعد زغلول ومصطفى النحاس في قفص الاتهام، مكتبة مدبولي، 1983، البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة، دار ابن خلدون، بيروت، 1979، رجال مرج دابق (قصة الفتح العثماني لمصر والشام)، دار الفتي العربي، بيروت، 1983، بوابة الحلواني وكشف المبادين في الدراما، 1995، التاريخ المجسم، 1995، الكارثة التي تهددنا، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1987، السؤال الذي لم يجب عنه أحد، 1995، رجال ريا وسكينة: سيرة سياسية واجتماعية، الكرمة للنشر، القاهرة، 2016. ويعد كتاب "رجال ريا وسكينة" من بين أشهر مؤلفات صلاح عيسى -إن لم يكن أشهرها، حكايات من دفتر الوطن، دار الشروق، القاهرة، 2011، مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا، دار الهلال، القاهرة، 2006، حكايات من مصر، دار القاهرة، 1983، مشاغبات : إزالة التباس-وفض اشتباك، 1997، التاريخ ينتقل إلى خافت المحظورات، 1995، الجمعيات الأهلية والقانون الجديد، مركز المحروسة، القاهرة، 1999، أفيون وبنادق، دار المحروسة للنشر، 2021.

 

ورحيل ورثاء صلاح عيسى

توفي يوم الاثنين الموافق 25 ديسمبر 2017، وقد نعت مؤسسات الدولة ومعارضتها على حد سواء صلاح عيسى، إذ أشار كل من «المجلس الأعلى للإعلام» و«هيئة الاستعلامات» و«الهيئة الوطنية للصحافة» و«نقابة الصحافيين» إلى إسهاماته الوطنية التي «أثرت في الحياة السياسية، حيث كان نقابياً مدافعاً عن حرية الصحافة»، وقالت «لجنة الدفاع عن استقلال الصحافة» في بيان إنّه برحيل الكاتب عيسى، «تكون الجماعة الصحافية، قد فقدت واحداً من أهم وأبرز المدافعين عن المهنة خلال عقود مضت».

وفي أواخر عام 2019، أدرج الجهاز القومي للتنسيق الحضاري اسم صلاح عيسى في مشروع "عاش هنا"، تخليداً لأسماء المبدعين عبر الأجيال، حيث وضع الجهاز لافتة تحمل اسم صلاح عيسى وعنوانه الذي يقع في 90 شارع عرابي بالمهندسين.

 

وصدر في سنة 2021 عن دار شمس للنشر والإعلام كتاب "حكايات من دفتر صلاح عيسى" للكاتبين الصحفيين محمد الشماع وهاجر صلاح، ويقع الكتاب في 200 صفحة من القطع الكبير، ويقدم الكتاب سيرة فكرية وثقافية وتاريخية للكاتب، ويشمل الكتاب فصلا عن علاقة المؤلفين بصلاح عيسى أثناء عمله كريس لتحرير جريدة القاهرة، وفصلا حول قصة قبوله رئاسة تحرير جريدة ناطقة بلسان وزارة الثقافة المصرية، وهو الأمر الذي استنكره البعض عليه باعتبار أنه "أحد رموز المعارضة"، وجاء الفصل بعنوان "هل باع القضية فعلا؟"، كما يتضمن الكتاب فصلا عن رفاق مسيرة صلاح عيسى السياسية والصحفية، وذلك من خلال شهادات من حسين عبد الرازق وحلمي شعراوي وحسن بدوي وأيمن الحكيم وغيرهم.