الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد سعيد العوضي يكتب: الحب.. قاتلٌ أم مظلوم؟!

صدى البلد

منذ تلك اللحظة التي تتصدع فيها جدران قلبك لصاعقة الحب ستشعر حينها أن كل شيء يبدأ جديداً و مختلفاً ، يختلف النبض المعتاد وتختلف الروائح التي تنتشر على حدود أنفك ويختلف الشعور بالبرد والحر ففي الشتاء يلبسك معطفا مغزولا من الصوف الناعم، وفي الصيف يلقي عليك بدل الزمهرير بردا وسلاما، بدأ منذ خلق آدم وحواء وامتد عاصفا بقلوب البشر، لا هو منذر لمن يخشاه ويخشى ما يحل بعده، ولا هو عالم بالآداب كفاية ليستأذن قبل الولوج إلى غرفة القلب المحزون، يتحرك في أحشاء الأم يربط قلبها وقلب جنينها كما يربطهما الحبل السري فيقطع الثاني ويقوى الأول ويزيد عقدة، يخرج طفلها للوجود وهي لاترى غيره كأنما أغلقت عليه بين أجفانها وطبقت الرموش وهي تحرسه بعينها التي لا تنام، حب الأم أطهر حب في الوجود، الحب الذي ليس كمثله شيء ولايمكنك اطلاقا أن تتحدث عن الحب ولا تنطق باسمها.

منذ الأزل حاول الفلاسفة والأدباء وضع تعريف محدد للحب، ولم يحصل ذلك أبدا فلكل منهم نظرة مختلفة، وهنا سأتحدث عن الحب الذي كتب عنه الشعراء والكتاب ومات من أثره الرجال وقامت لأجله الحروب، ذلك الحب الذي يخلق بين اثنين يختلفان جسدا وتكوينا وتتحد أرواحهما وتتفاعل وينمو ذلك الشعور بالأخذ والعطاء. يقول تميم البرغوثي في مطلع قصيدته: كم أظهر العشق من سر وكم كتما، وكم أمات وأحيا قبلنا أمما ..

" و من الحب ما قتل " لابد وأنك سمعت بهذا القول من قبل مقولة شهيرة للأصمعي كتبها بعدما كان يتجول في البوادي إذ مر بصخرة كتب عليها: (أيا معشر العشّاق بالله خبروا، إذا حلّ عشقٌ بالفتى كيف يصنع)، فإذا بالأصمعي يرد على صاحب البيت وذلك بالنقش على نفس الصخرة ببيت شعر آخر يقول فيه: (يُداري هواه ثم يكتم سره، ويخشع في كل الأمور ويخضع)، وفي اليوم التالي مرّ الأصمعي على نفس الصخرة ولاحظ وجود بيت من الشعر مكتوب أسفل البيت الذي كتبه هو في اليوم السابق: (وكيف يداري والهوى قاتل الفتى، وفي كل يومٍ قلبه يتقطع).


وحدث نفس الأمر بأن مرّ الأصمعي وردّ على هذا البيت بكتابته لهذا الرد: (إذا لم يجد الفتى صبرًا لكتمان أمره، فليس له شيء سوى الموت ينفع)، وتبين أن الفتى سمع نصيحة الأصمعي وقتل نفسه وقبلها كتب على الصخرة: (سمعنا أطعنا ثم متنا فبلّغوا، سلامي إلى من كان للوصل يمنع..)، وبهذه الحادثة ظهرت مقولة ومن الحب ما قتل. وهذه واحدة من القصص الكثيرة التي انتشرت في زمن العرب، جميل وبثينة عبلة وعنترة ليلى وقيس وغيرهم ممن قتلهم الحب ولسعتهم نيرانه فتلظوا فيه مستعرين لا يرون فيه إلا وجه الحبيب وطيفه، فلا هم ببالغيه ولو بلغوه لما اشتعل القلب عشقا.

ومن الحب ما أحيا.. أؤمن إيمانا عميقا أن الحب ليس بقاتل إذ كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وخديجة حيا يوقظ القلب ويمد أوصاله عميقا في الروح، أحبها حبا خالصا لم يرجو منه شهوة أو جمالا، وأغدقت عليه برزقها وعطفها، نور خافت يخرج من بيتهما وسكينة لم تعكر صفوها ضروب الحياة بشدتها وعواصفها، وراء عظمته كانت العظيمة نصرته وزملته ولم يرى في الديار غير قلبها ليستقر فيه بعدما هزته كلمات الوحي، حملا الرسالة معا وقاومت معه حتى الجنة.

جميل بنا أن تشرق عينانا وأن تأخذ منا اللهفة مأخذا ولكن مثل هذه الرومنسية لن تبقى طويلا ما دام الإخلاص والواقعية غائبان، والحب ليس امتلاكا للحبيب أو حبسه عن الدنيا لأن الأنانية هنا التي تكبر وليس الحب، لكل منكما أفكاره وأحلامه والأجمل أن تتشاركاها وتتقبلاها، وليس لكما أن تنصهرا في شخصياتكما فالحقيقة أن لكل ذاته، يقول أحد علماء النفس: (إن الحب الذي يقوم على الاهتمام بالذات يوجب بالمقابل إخلاصا واستعدادا للقبول بحرية الطرف الآخر بأن يحقق ذاته أيضا)، والحب الذي لا يجعلك تكبر كل يوم مع من تحب تصحح أخطائه وتتجاوز عن هفواته، تتعلم منه وتعلمه، تصدقه القول وتصَدِّقه، تعبران متاهات الحياة معا وتتوغلان في مساحات الشيخوخة يدا بيد، تجاوران الفزع بالسكينة وتغلفان الهدوء بالفوضى ويحييكما الحب كما أحيا محمدا وخديجة، هذا هو تعريف الحب فلا تسأل أحدا.