الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إبراهيم عطيان يكتب: كنَّا غُرباء

صدى البلد

في ذاك النهار الصيفي كنا غرباء، نعم كنا غرباء ونُفوسنا أيضاً كانت مثلنا غَريبة، كانت في قصرها وكنت أنا أتحسس الخطى وحيداً بجوار سور حديقتها الغناء؛ ألتمس نسمات الهواء البارد القادم منها حتى راودني النسيم العليل وحدثتني نفسي بالجلوس قليلاً، ولما أنعشت صدري رائحة الليمون جلست تحت أشجار حديقتها وارفة الظلال قبل أن أمضي في طريقي، لكن الشمس قد غابت قبل أن أبرح مكاني وحلَّ المساء، فأمطرت السماء. 
أَزِفَ الموعد والتقينا بلا ميعاد حين خرجت لشرفتها كالحورية سعيدة بالمطر، وبدلال ألقت عليَّا التحية ثم تكلمت وكأن سيلاً من الحنين تدفق عندما نزل المطر، وجزيرة الياس التي تسكنها أزهرت وترعرعت، وجذور الود في أرض الجزيرة كسَّرت طبقاتِ صخرٍ جامدٍ في سابق العهد القديم كانت قد تأصَّلت، وثمار الوَجْد في قلب الجزيرة أينعت بعد  الضمور، ثم استدارت كالفراشة وغادرت الشرفة، فجلست صوب البيت ساعات وساعات أبتغي نظرة في وجهها . 
وعندما جنَّ الظلام وساد الصمت محيط منزلها، تمايلت كالمهرة الشقراء في ثوب يتدلى كالموج الهادئ وتطايرت خصلات شعرها تداعب في رفق شديد وجنتيها، وشرفتها الصماء نظرت إليها ثم تكلمت؛ خوفاً عليها من عيون أبصرت ولم تسم الله عندما ألمعت عيناها كل شيء حولها.
وأضاء وجه ملائكي كالبدر جنبات المكان، وكلما تكاثرت الغيوم عبست السماء وغاب القمر، لكن عيونها كانت في الليل كأسواط من البرق تضرب كبد الظلام فينشق ليخرج النور، وتعم المكان فوضى وأضواء احتفالية صاخبة تُخزي عيون الحاسدين عنها حتى تستَّرت خلف الخمار المخملي وأغلقت نوافذها من جديد . 
صار المكان عندي مألوفاً، وصِرت أبحث عنها في كل يوم، 
أذهب وأعود، ثم أذهب وأعود، ثم أذهب وأعود لنفس المكان ملهوفاً،
أتفقد شرفتها بين الحين والأخر؛ ربما ظهرت أو جائني عنها خبر يعيد لعقلي التركيز ولقلبي الهدوء . 
لم أك طفلاً حينها يبحث عن أمه، ولكني أذكر أنها كانت لي حياةً ومولداً، ولحسن حظي لم يدم الغياب طويلاً حتى عادت من جديد، وعندما رأتني في نفس المكان صارت تحدثني عمَّا كان يجري، وتصف الأمطار الصيفية قبل أن يهتزَّ كل شيء أمامي عندما لوحت بكفيها وداعاً وانصرفت. 
لن أنسى ما حييت تلك اللحظة السعيدة عندما كانت تدوِّن كل شيء يجري من حولها وتوثق لحظة سقوط المطر بهاتفها؛ لتضعها أمامي وكأني في قلب الحدث، 
كم كان ذلك رائعاً عندما أتتني بغير موعد في يوم نزل فيه المطر صيفاً. 
كل شيء منذ البداية يبدو مدهشاً؛ أشخاص غرباء، وبلدان بعيدة، ثم يجمعهما لقاء بلا موعد وأمطار صيفية، فتعارف سريع وتآلف منه كان أسرع . 
صار شريان الود بيننا أكثر سخاءً من نهر النيل، وعلاقة استثنائية أشد منه وفاءً، تأسست قوية منذ البداية، وقامت أركانها بلا سابق معرفة، 
الأحداث كلها كانت متشابكة وبلا تفسير، كأن القدر جمع كل الأدوات، 
وجلب كل شيء من موطنة زائراً في تلك اللحظات الجميلة؛ 
ليكتب البداية الأجمل. 
أشياء تبدو للخيال أقرب منها للواقع، لكنها حدثت بلا شك. 
صارت حديقتها ملاذي ومرادي في كل يوم حتى جاءت اللحظات الأسعد بعد أيام قضيتها في مراقبة الشرفة حتى رفَعَتْ الستار وأطلَّت عليَّ من خلف نافذتها الزجاجية في خجل واختفت سريعاً لكنها هذه المرة تركت ابتسامة هادئة تُغلفها بِقدرٍ كبير مِنْ الثقة والأمان . 
كانت بالفعل لحظات لا أكثر، إنها فقط ثوان معدودة، لكن ثقتها منحتني من القوة ما يجعل الضعيف يدوس على كل لحظة وجع، وتُسْقِط دموع الحزين فرحاً،
وابتسامتها غرست في قلبي قدراً هائلاً من الثقة والأمل وتبخرت في أعماقي كل لحظة يأس، تمنيت لو تشتريني طالما مرت ببئري؛ 
فعساي معها أن أكون عزيزاً . 
وددتُ لو ألامس شعرها، أُقبِّل وجنتيها وألاطفها بِرحيقٍ مِن الأمان والحنان، 
وأمنحها ما تستحق من التقدير والعرفان؛ فقد تعلمتُ أَنْ أشكر كل نفس طيبةٍ قدمت لأجلي شيئاً، وأُقدِّر كل جُهد بُذل لخاطري، وأُحافظ على عُهودي، وأن أصون الأمانة ما حييت . 
لن أكون أبداً مبالغاً إذا قلت بأن لقاءها في ذاك اليوم كان شهادة ميلاد وبداية حياة، وأني الوحيد الذي شهد يوم مولده . 
لم يكن هذا فقط هو حجم سعادتي كلما أطلت عليَّ ونظرْتُ في وجهها، فسعادتي كانت أكبر من ذلك بكثير ولكني أوجزتُ كثيراً في وصفها حتى لا تُصيبنا عيون الحاسدين .